جعلت بعض قرّائها زنادقة وفلاسفة..

تأثير المطبوعات المصرية على العراقيين

ارشيفية

وكالات

شهدت مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر نهضة طباعية وصحافية زاهرة، ووصل نتاجها إلى العراق بكثرة فأحدث فيه أثراً فكرياً كبيراً.

"أصبحت مصر كأنها الواسطة الفكرية ودار التعريب بين أوروبا والبلاد العربية، فكانت الأفكار الحضارية الجديدة تأتي إليها من أوروبا، فيترجمها الكتّاب والمؤلفون المصريون بعد أن يضيفوا إليها طعماً عربياً، ثم تُرسل بشكل صحف ومجلات وكتب إلى العراق والبلاد العربية الأخرى عن طريق البواخر. وكان سير البواخر يومذاك منتظماً يحمل رزم المطبوعات الآتية من مصر كما يحمل المنتوجات الصناعية الآتية من أوروبا"، بحسب الدكتور علي الوردي، في كتابه "لمحات تاريخية من تاريخ العراق الحديث".

أهم المجلات التي كانت تصل إلى العراق في تلك الآونة "المقتطف" و"الهلال"، وكانت النزعة الغالبة على كلتا المجلتين الدعوة إلى تبني الحضارة والعلوم الحديثة، وبناء المجتمع على أساسها.

مجلة "المقتطف" كانت تنزع نحو الفلسفة والعلوم الطبيعية ومجلة "الهلال" تنزع نحو العلوم الاجتماعية واللغوية والتاريخية.

"قاومها المحافظون"

يقول ألبرت حوارني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة 1798 -1939" إنه "عندما وصلت الأعداد الأولى من ‘المقتطف’ إلى بغداد في 1876، لم يرحّب بالمجلة إلا بعض الشباب، بينما قاومها المحافظون من مختلف المذاهب السنية والشيعية والمسيحية واليهودية، لأنها كانت في نظرهم تنشر عقائد جديدة وخطرة. حتى أن الواعظ والفقيه نعمان الألوسي نفسه، الذي كان زعيم حركة إصلاح إسلامية لا تختلف عن حركة محمد عبده، قاومها هو أيضاً. وقد انقضى بعض الوقت قبل أن أخذت عقائدها في الانتشار".

وتعتبر "المقتطف" من أشهر المجلات المصرية-اللبنانية، وأسسها عام 1876 في بيروت معلمان شابان من أساتذة الكلية البروتستانية السورية هما يعقوب صروف وفارس نمر، قبل أن ينتقلا عام 1885 إلى القاهرة، وينقلا معهما المقتطف لتصدر هناك طوال نصف قرن.

جرجي زيدان

أما "الهلال" فظهرت لأول مرة عام 1892، على يد جرجي زيدان (1861-1914) الذي تلقى علومة لفترة في الكلية البروتستانية السورية.

وبحسب حوراني، قد تبدو المواضيع التي كانت تعالجها هاتان المجلتان عديمة المغزى، خصوصاً أنهما كانتا تتحاشيان كل ما يتعلق مباشرة بالسياسات المحلية أو بالدين... غير أن وراء هذه المواضيع كانت تكمن بعض  الأفكار حول ماهية الحقيقة وكيفية البحث عنها.

كانت مجلة "المقتطف" تنشر مقالات متسلسلة في شرح نظرية دراوين بقلم شبلي شميل، وحين وصلت إلى العراق انبرى بعض علماء الدين في النجف للرد عليها وتفنيدها، وكان أنشطهم الشيخ أغا رضا الأصفهاني، والشيخ جواد البلاغي، وألفوا في ذلك كتباً ضخمة بأسلوبهم الجدلي، وفق ما يذكر الوردي، الذي أشار إلى أن أحدهم أرسل كتاباً في نقد النظرية إلى شبلي شميل، ظناً منه أنه سيقتنع بزيف النظرية بعد قراءته للكتاب، ولكن شميل أرسل إليه جواباً مقتضباً: "عذرك جهلك والسلام".

يقول الكاتب الصحافي والباحث السياسي علي الكليدار، مقدم برنامج "التاريخ المخفي"، على قناة صفا الفضائية، إن المطبوعات المصرية كان لها أثر كبير على العراقيين، وبالتحديد المثقفين، مرجعاً ذلك إلى أن المطبوعات العراقية كان يغلب عليها الطابع الرسمي بعكس المصرية، إلى جانب ميل العراقيين إلى الأدب المصري.

أقوال جاهزة

شاركغردالمجلات المصرية في العراق في نهاية القرن الـ19.. قاومها المحافظون من السنة والشيعة والمسيحيين واليهود

شاركغردتأثير الفكر الحداثي للمجلات المصرية على العراقيين.. تاريخ يلخصه الصراع بين شخصيتين: الزهاوي والشهرستاني

ويقول الكليدار الذي تجاوز العقد السادس لرصيف22 إن دار الهلال كانت تصدر مجلات عظيمة يتلهف العراقيون لقراءتها، ويشير إلى أن أكثر المطبوعات المصرية التي كان ينتظرها المثقفون العراقيون بخلاف "المقتطف" و"الهلال" في القرنين الماضيين هي "صباح الخير"، "الأهرام"، "آخر ساعة" و"المصور".

ويعتبر الكليدار أن المطبوعات المصرية ساهمت في تعميق الفكر وزيادة الوعي عند العراقيين، مستطرداً: "لكن الظروف السياسية التي تلت ثورة 1952 أدت إلى انقطاع هذه المطبوعات وعدم وصولها إلى العراق".

رائدان فكريان

من أوائل الذين أولعوا بالمطبوعات المصرية وتأثروا بها اثنان، أحدهما في بغداد والآخر في النجف، هما جميل صدقي الزهاوي، وهبة الدين الشهرستاني.

كان الزهاوي من قراء "المقتطف" وأول مَن اعتنق نظرية داروين في العراق، وصار في نظر المعممين زنديقاً وفي نظر الأفندية فيلسوفاً. ولم يكتف بالدعوة إلى الأفكار الحديثة بل أخذ ينتقد بعضها استناداً إلى ما فهمه عنها من قراءته للمجلات.

يُشار إلى أن طبقة الأفندية ظهرت في العراق من متخرجي المدارس الحديثة، وصاروا يحلّون محل الموظفين القدماء في الدوائر الحكومية تدريجياً، وكان لهم أثر لا يُستهان به في إدخال معالم الحضارة الحديثة إلى المجتمع العراقي.

ويشير الوردي إلى أن "الزهاوي انتقد نظرية نيوتن في الجاذبية بأسلوب لا يختلف في أساسه المنطقي عن أسلوب أغا رضا الأصفهاني في انتقاد نظرية داروين، ولكن الأفندية اعتبروه عبقرياً لأنه استطاع أن ينتقد نظرية كبرى من نظريات العلم الحديث دون أن يكون له إلمام بها سوى ما قرأه عنها في مجلة المقتطف وأمثالها".

ويعلّق الوردي: "إن هذا أمر غير مقبول في أيامنا هذه، ولكنه كان في تلك الأيام يُعدّ من علامات الذكاء الخارق".

هبة الدين الشهرستاني

أما الشهرستاني، فكان يُشبه الزهاوي من بعض الوجوه، ويختلف عنه من وجوه أخرى. كان في أوائل القرن العشرين من أكثر الناس ولعاً بالمطبوعات المصرية حتى صار مرجعاً فيها عند الراغبين بها ممن يلبسون العمامة ويدرسون الدين.

اتخذ الشهرستاني لنفسه حلقة دراسية في جامع الطوسي، كان يدرس فيها بعض مبادئ العلوم الحديثة التي استمدها من المجلات والكتب المصرية، فأثار بذلك شيئاً من الضجة، واعتبره المتزمتون متفرنجاً زنديقاً.

نشأ كل من الزهاوي والشهرستاني نشأة دينية، إذ كانت أسرتاهما من الأسر الدينية المعروفة، غير أن الشهرستاني ظل محافظاً على عمامته وزيه الديني حتى آخر يوم من حياته، بينما خلع الزهاوي عمامته في كهولته ودخل سلك الأفندية، وهذا الفرق الظاهري يشير إلى ما بينهما من اختلاف ذهني.

وبرأي الوردي، قد يصح أن نقول إن الفرق بين الرجلين هو كالفرق بين النجف وبغداد، من الناحية الاجتماعية، فالنجف تُعدّ بيئة اجتماعية مغلقة مقارنةً ببغداد، إذ تسودها التقاليد ولا يأتيها الغريب إلا لكي يتأثر بها أو يذوب فيها، أما بغداد فهي على النقيض من ذلك، مفتوحة يلتقي فيها الغرباء والأجانب من كل صوب فيؤثرون فيها أكثر مما يتأثرون منها.

"كان كل من الزهاوي والشهرستاني يسير في تجديده الفكري على طريقة تلائم البيئة الاجتماعية التي عاش فيها. فالزهاوي كان شديد الإعجاب بالعلوم الحديثة ويريد من الدين أن يلحق بها ويتفق معها. أما الشهرستاني فكان شديد التمسك بالدين ويريد من العلوم الحديثة أن تلحق به وتواكبه وتتفق معه، ولهذا رأيناه في  جميع كتبه ومقالاته يحاول أن يبرهن للقراء أن الدين الإسلامي سبق العلوم الحديثة بنظرياته، وأن تلك العلوم لم تأت بما يُناقض الإسلام أبداً، وإذا ظهر بينهما شيء من التناقض فمرد ذلك إلى سوء الفهم وقلة الاطلاع"، وفق الوردي.

عام 1910، نادى الزهاوي بتحرير المرأة ورفع الحجاب عنها، فقامت عليه في بغداد ضجة كادت تودي بحياته. ويُنسب للزهاوي قوله إن الشعب العراقي "هاج" عليه بسبب مقالة نشرها في "المؤيد" في مصر في الدفاع عن المرأة "حتى أني قبعت في داري ولم أخرج منها خوف اغتيال الشعب الحارد لي".

وقال الزهاوي شعراً: "مزقي يا ابنة العراق الحجابا/ أسفري فالحياة تبغي انقلابا/ مزقيه وأحرقيه بلا ريث/ فقد كان حارساً كذابا".

يتطرق الباحث العراقي رشيد الخيُّون في مقال نشر في مجلة الفيصل في نوفمبر 2016، إلى دفاع الزهاوي عن المرأة في شعره ونثره، مشيراً إلى ما واجهه من عَنَت المجتمع، ودعواته في مجلس المبعوثان العثماني (1914) لاتخاذ السبل الحديثة والعلمية في الاقتصاد والتعليم، حتى كاد يفتك به رجال الدين بعد أن نعتوه بالزنديق والملحد.

أي دعوة انتصرت؟

تأثرُ العراقيين بالمطبوعات المصرية لم يكن قاصراً على الزهاوي والشهرستاني، بحسب الكليدار الذي يؤكد أن معظم الأدباء والشعراء العراقيين كالشاعر معروف الرصافي، وعبد المحسن الكاظمي، اطلعوا على النشاط الثقافي العربي والمصري على وجه الخصوص.

ولكن، ماذا كانت نتيجة هذا التأثر؟

يقول الوردي إن كل واحد من هذين الرجلين، الزهاوي والشهرستاني، كان ينظر إلى الدنيا من خلال إطاره الفكري الخاص به، "فالزهاوي أراد أن يقفز بالمجتمع العراقي إلى الحياة الحديثة دون مبالاة بالدين والتقاليد بينما أراد الشهرستاني عودة المجتمع إلى حظيرة الدين بعد تنقيته من الأدران التي لحقت به في العقود المتأخرة".

ويرى الوردي أنه "نجحت دعوة الزهاوي بينما أخفقت دعوة الشهرستاني، ذلك لأن التيار الحضاري جبار ساحق لا يقبل بأنصاف الحلول. وهذا ما نلاحظه واضحاً في أبناء الجيل الجديد الذين إذا هم تركوا الدين وراء ظهورهم وانغمسوا في الحضارة الحديثة ينهلون منها بلا حدود ولا ندري أين سينتهي المطاف بالناس أخيراً".

يقول الباحث العراقي رشيد الخيُّون في مقاله "عندما ننظر في النتيجة التي أسفر عنها الوضع السياسي والاجتماعي بالعِراق، لا نجد نجاحاً قاطعاً لواحد منهما، مع أن التَّقدم المدني والحضاري قد ساد في المجتمع العراقي منذ بداية الثلاثينيات حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، لكن ذهب كل ذلك أدراج الرياح، وكأنْ لم تتحقق نهضة، سوى ما كانت على طريقة الشهرستاني أو الزهاوي، ومع مَن أيد كلاً منهما".

ويضيف الخيون: "لو عاش الوردي إلى يومنا هذا لراجع ما كتبه في شأن الرجلين"، قاصداً حديثه عن نجاح دعوة الزهاوي.