بين سمو الروح وشهوة الجسد

لماذا ينفصل العشاق رغم الحبّ؟

الشاب الوسيم يداعب مشاعر الفتاة المراهقة

محمد حسين الشيخ (لندن)

كالفراشة كانت تنقلُ يديها فوق أزرار البيانو، ومع كل دقة على المفاتيح ذات اللون الشطرنجي، كان قلبه يتراقص... ما هذه الفتاة؟ أحقًا لم تكمل 14 عامًا؟ لقد خلقت لي.

بدأ الشاب الوسيم يداعب مشاعر الفتاة المراهقة، حتى أغواها، ثم خطبها من أهلها، ليعيشا قصة تحدث عنها أهل المدينة، ولكنه بعد 3 سنوات انتبه إلى أن الزواج سيظلم هذه العلاقة ويظلمه، فقرر فسخ الخطبة وأرسل إليها الخاتم ومعه رسالة تقول: "في بلاد الشرق يعني إرسال حزام الحرير أن المرسَل إليه سوف يموت، أما هنا فإرسال خاتم يعني أن المرسِل هو الذي سيموت".

لم تستسلم الفتاة وهددت بالانتحار إذا لم يعد إليها، فعاد لمدة شهرين ثم عاود الانفصال، وقرر أن يجعلها تكرهه، فبدا قاسيًا في معاملة أهلها، وتعمد الظهور أمام الناس سعيدًا، حتى يثبت لها أنه لا يستحق حبها.

انفصل سورين كيركيجارد عن محبوبته ريجين أولسن شكلًا، ولكن قصة حبهما لا تزال خالدة رغم مرور ما يقرب من 200 عام عليها، تلك القصة التي جعلها كيركيجارد مختبرًا نفسيًا له، وساهمت في وضعه على خريطة الفلاسفة عبر التاريخ.

لم يحب فيلسوف كوبنهاجن بعد ريجين، وظل يحلل عذاباته وكل تصرفاته الناتجة عن حرمانه منها حتى مات. هذه التحليلات أصبحت جزءًا من فلسفته التي لم يتاجر بها، لأنه لم ينشر شيئًا منها، وإنما كان يضع ما يكتبه في الخزنة التي كانت ريجين تتمنى أن يُحبَسا بداخلها معًا حتى الموت، مهديًا كل إنتاجه الفكري إلى شخص مجهول سيرث تلك الكتب وينشرها باسمه، بعد موته.

كيركيجارد ترك ريجين بدافع من عقله لجعلها مصدرًا للوحي والإلهام. ضحى بالزواج من أجل فلسفته على أمل اللقاء بها بعد الموت.

هناك من ينفصلون رغم الحب، ولكن ليس بالضرورة أن ينفصلا على طريقة كريكيجارد وريجين.

لماذا ننفصل رغم الحب أو ما هي الأسباب التي تجعل التضحية بالحب أمرًا ضروريًا لدى البعض؟ هل الأسباب المعلنة دائمًا هي الحقيقة؟ أين يذهب المحبون بعد الانفصال؟

هناك أسباب لانفصال الحبيبين خارجة عنهما، كالعوامل المادية أو تدخلات الأهل، أو اختلاف الدين، وغيرها ولكن في بعض الأحيان يحدث الانفصال "رغم الحب" مع غياب لتلك الظروف لأسباب تتعلق بقلبي وعقلي الحبيبين.

تتأرجع عوامل الانفصال تلك، بين سمو الروح وشهوة الجسد، وما بينهما من متغيرات، وقد يغلب شيء على آخر فيحدث الانفصال.

الحب العذري: ما حقيقته؟

من كلمات نزار قباني، سألت نجاة حبيبها الرحيل، معللة ذلك بقولها: "من أجل حب رائع يسكن منا القلب والأهداب، وكي أكون دائمًا جميلة، وكي تكون أكثر اقترابًا".

علاقتنا أسمى من لقاءات جنسية متصلة، روحانا تتعانقان قبل التقاء جسدينا، لا يعنيني أن أشاهدك لأنك معي دائمًا... عبارات مثل هذه وأكثر يسوقها بعض المحبين الذين يعتبرون أن علاقتهم أسمى من الانحصار في صور مادية، فلا يتزوجان خوفًا على ضياع تلك المشاعر، وتحول علاقتهما إلى شكل تقليدي.

الأمر قد يراه البعض مبالغاً فيه، ولكن كتب التاريخ حفلت بمثل هذه العلاقات، رغم التشكيك في صحتها، "روميو وجولييت، قيس وليلى، جميل وبثينة...".

ويوضح الدكتور صادق جلال العظم في كتابه "الحب والحب العذري"، أن كثيرين تناولوا هذا النوع من الحب على أنه "ظاهرة روحية"، تصور الحبيب بالنسبة لحبيبه كمثال، ووسيلة للمتعة الروحية، ويسيطر على حبهما الحرمان، بجانب الإخلاص والعفة والطهارة، ويعتقدان بشكل يقيني أن القرب الزائد يجعل حبهما يتناقص تدريجيًا حتى ينتهي، أما الحرمان الذي يعانيانه فسيزيد إلهاب الحب في نفسيهما، حتى يصل الحبيب إلى قديس لدى محبوبه، ويغلف السحر لقاءاتهما القليلة.

لكن العظم يؤكد أنهما يفضلان الفراق حتى يشتد العناق والجنس عند اللقاء، يعذّبان القلب بالبعد حتى ينبهر إلى حد الجنون عند القرب، في علاقة تغلب عليها السادية والماسوشية، مفضلين العذاب الذي يشعل الرغبة ويولد اللذة، وهو نمط مرضي للحب، بحسب ما يرى العظم.

هل الجنس يغلب الحب؟

على عكس العذريين، هناك أغلبية تعتبر الجنس وقودًا للحب؛ فكثير من الفلاسفة اتفقوا على أن الجنس جوهر العلاقة، وبعضهم أنكر الحب من الأساس واعتبره غلافًا للجنس، ومنهم الفيلسوف الألماني أرثور شوبنهاور (1788 – 1860م)، في كتابه "العالم إرادة وفكرة"، إذ يقول: "إن الحب حتى لو بدا نقيًا شاعريًا فجذوره تتأصل في الغريزة الجنسية، ولا يهدف في مجمله إلا للحفاظ على الجنس البشري".

كذلك رأى سيجموند فرويد، صاحب "التحليل النفسي"، أن الحب ما هو إلا وهم، ووسيلة للوصول للجنس، معتبرًا أن الإنسان كائن بيولوجي قبل أي شيء، ولذة الجنس هي مفتاح سعادته وخلوده في الوقت نفسه.

في مصر، أصدر مركز معلومات مجلس الوزراءتقريرًا عام 2016، يؤكد أن حالة طلاق تحدث كل 4 دقائق بمتوسط 250 حالة في اليوم الواحد، وأكثر تلك الحالات تتم بعد فترة قصيرة من الزواج، بعضها لا يتجاوز ساعات.

وبيّن التقرير أن الخيانة الجنسية كانت على رأس أسباب الانفصال، خاصة بعد سهولة كشف هذه الخيانة، عبر حسابات الزوج أو الزوجة على وسائل التواصل الاجتماعي.

ويوضح الدكتور كمال شعير، رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية لطب الجنس وجراحاته، أن سببًا رئيسيًا وراء الطلاق يكمن في غياب التوافق الجنسي بين الطرفين، لافتًا إلى أن الكثيرين يخجلون من ذكر هذا السبب حين ينفصلون، ويعلنون أسبابًا أخرى، بالإضافة إلى أن تأثير عدم الرضا الجنسي ينعكس على الحالة النفسية، ويدفع إلى خلق مشكلات أخرى بين الطرفين، مؤكدًا أن بعض المنفصلين جمعتهما علاقة رومانسية عنيفة، ولكن غياب متعة الجنس خلق مشاكل من نوع آخر، طفت على سطح العلاقة، لكنها سترت تحتها المشكلة الحقيقية.

قلبي يريده وعقلي لا يقبله

الصحفية عنان تزوجت من مختار، الموسيقِي والمغني الموهوب، بعد حب، لكن مختار كسول ويعيش في لهو ولا يعمل، وبعد فشل عنان في إصلاحه تنفصل عنه وتتزوج من آخر رغم حبها الشديد له، لأنه فاشل، وهي تريده ناجحًا، وبالفعل تنجح خطتها ويلتفت مختار إلى موهبته ويعمل وينجح، وتلقى أغانيه نجاحًا كبيرًا.

كان ذلك ملخصًا لفيلم "الخروج من الجنة" لهند رستم وفريد الأطرش، المأخوذ عن مسرحية لتوفيق الحكيم. وبها ينتصر عقل عنان الراغب في مصلحة مختار على قلبها الذي يصعب عليه فراقه، وتتركه.

عند تعرض الإنسان لأمر ما، فإن قلبه وعقله يعملان معًا للوصول إلى نتيجة، وقد يتعارضان فيما يرغبانه، ولكن اتضح أن القلب ينتصر غالبًا في حالة التفكير بأمور خاصة بنا لا بآخرين، بحسبدراسة لعلماء من جامعة واترلو الكندية، والجامعة الكاثوليكية الأسترالية.

الحب من الأمور الخاصة جدًا، والقلب هو المتحكم الأساسي به، إلا أن العقل ينتصر أحيانًا، خاصة لدى من تغلب عليهم الجدية والصرامة، من الذين يرون أن نجاحهم الشخصي أهم من أي شيء، وبالتالي يضحون بعلاقة تميل إليها قلوبهم ولكنها قد تجلب الفشل، ويفضلون أخرى تجلب النجاح، مقابل التضحية بالحب، يقول المتخصص في الطب النفسي، جمال فرويز لرصيف22، مبينًا أن النفس البشرية معقدة، وكل الأنماط الثابتة للعلاقات شذ عنها كثيرون.

الخيانة

الإهمال من أحد الطرفين قد يؤدي إلى الخيانة رغم الحب، فالمرأة تريد أن تشعر بأنها لم تزل جميلة ومرغوبة عاطفيًا، وقد تبحث عن رجل يعيد لها ثقتها بأنوثتها إذا ما أهملها الزوج، والرجل إذا ملّ يبحث هو الآخر عن تجربة جديدة تنعش مشاعره أحيانًا.

الكارثة تظهر حين يكتشف أحد الطرفين ما فعله الآخر، وهنا قد يحدث الانفصال بسهولة، لأن الجرح الناتج عن الخيانة يطعن في احترام الطرف الذي تمت خيانته لنفسه، ويمس كرامته ويهز ثقته بذاته ومستقبله مع شريكه الخائن، وهنا قد يحدث الانفصال رغم أن الطرف الذي طلب الانفصال لا تزال بداخله مشاعر إيجابية تجاه الآخر، يقول جمال فرويز موضحًا أن هذه الحالة تولد صراعًا بين حب الأنا وحب الآخر.

وإذا ما تنازل طرف لمصلحة الآخر، فإن شيئًا يخصه دفعه لذلك، كخوفه من عوامل اجتماعية (نظرة الناس إليه مثلًا)، أو عوامل مادية (كخوف المرأة على حياتها من دون رجل ينفق عليها)... إلخ، يوضح فرويز، مشيرًا إلى أن غياب هذه العوامل قد يجعل انتصار العقل على القلب أسهل.

ماذا يحدث بعد الانفصال؟

"حرمت روحي من كل نسمة كانت بتسري بينك وبيني، وحرمت روحي من كل نعمة كانت بتحلى وياك في عيني، وقلت أعيش من غير ذكرى تخلي قلبي يحن إليك، ما فضلش عندي ولا فكرة غير إني أنسى أفكر فيك"، تقول أم كلثوم من شعر أحمد رامي، معبّرةً عن امرأة تتألم بعد الانفصال، لحيرتها بين مشاعرها التي لا تزال متعلقة بحبيبها، وبين اعتزازها بذاتها، وحرصها على كرامتها.

الأمر ليس كذلك غالبًا، فهناك من يرى أن علاقته كانت "غلطة" ويندم عليها:

لكل حالة ظروفها وانفعالاتها النفسية، ولكن تبدل المشاعر أو ثباتها بعد الانفصال يوضح مدى قوة العلاقة، لأن قيد الزواج الذي يقتل تلقائية الحب، ويفرض علينا النزول لرغباتنا قد زال -بحسب ما يذكر صادق العظم- وبالتالي فإن الهدوء الذي يأتي بعد مرور عاصفة الانفصال، قد يدفعنا إلى تقييم العلاقة، ويجعلنا نكتشف حبنا من جديد، أو نتثبت من صحة موقفنا في الانفصال.