الرسول حبس أعداءه في المسجد وبيوت زوجاته..

كيف ظهرت السجون بعد الإسلام؟

ارشيفية

وكالات

لم يكن المسجد النبوي في المدينة المنورة مكاناً مخصصاً لصلاة المسلمين أو مركزاً لاجتماع الرسول بأصحابه فحسب، وإنما كان أيضاً سجناً حُبس فيه بعض الناس مقيّدين بأعمدته، ومنهم ثُمامة بن أثال الحنفي (580 – 629).

وكان قد أُتي إلى النبي برجل من بني حنيفة هو ابن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، وبقي محبوساً لمدة ثلاثة أيام، حسبما ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري".

ويبدو أن الرسول أراد بحبس ثمامة في المسجد أن يعرّفه على نظام المسلمين العام وعباداتهم وأخلاقهم الاجتماعية، كون المسجد كان مكان التقاء المسلمين، وذلك لأن في إسلامه مكسباً كبيراً للمسلمين.

وحقق الرسول مبتغاه، فبعد ثلاث ليالٍ أعلن ثمامة إسلامه، حسبما روى الدكتور حسن أبو غدة في كتابه "أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام".

غير أن الرسول اتخذ أيضاً من البيوت سجوناً. فقد رُوي أنه حبس سهيل بن عمرو في حجرة من حجرات بيت زوجته حفصة، بعد أسره في غزوة بدر عام 624. وفي دار نسيبة بنت الحارث الأنصارية حُبس بعض يهود بني قريظة بعد حكم سعد بن معاذ فيهم.

وبحسب أبو غدة، يبدو أن الدار كانت واسعة ممتدة كثيرة الحجرات لأن عدد المحبوسين فيها كان كبيراً. كما حُبست مجموعة أخرى من بني قريظة في دار أسامة بن زيد بالمدينة، حسبما ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".

وفي الحروب، اتخذ الرسول الخيام مكاناً لحبس الأسرى في غزوات عدة. وروى أبو غدة أن ذلك حدث في غزوة بدر عندما حُبس الأسرى ثلاثة أيام ثم اتجه الرسول بهم صوب المدينة.

وذكر أبو غدة أن الرسول أفرد محبساً خاصاً للنساء. وحُبست سفانة ابنة حاتم الطائي بعد أسرها، أثناء غزو المسلمين لبلاد طيء في حائل، في حظيرة بباب مسجد المدينة كانت السبايا يُحبسن فيها.

وفي حادثة أخرى، أمر الرسول بوضع أسرى المريسيع (نسبة إلى غزوة بين المسلمين وبين بني المصطلق وقعت عام 627 في منطقة تسمى بماء المريسيع) الرجال في ناحية، وجعل النساء والصغار في ناحية أخرى.

وكانت مدة الحبس في الغالب لا تتجاوز بضعة أيام، إلى حين البت بأمر المسجون.

سجون الأشراف والسادات

وعرف العرب السجون قبل الإسلام، بحسب الباحث هاني أبو الرب، في دراسته "السجون في بلاد الحجاز في صدر الإسلام". فقد سُجن الحارث بن عبد بن عمر بن مخزوم في سجن في جبل نفيع بمكة، كان يحبس فيه سفهاء قومه.

وكان لحجر بن الحارث الكندي، والد أمرئ القيس، سجن حبس فيه بعض سادات بني أسد لأنهم ثاروا عليه، منهم عمرو بن مسعود الأسدي، وعبيد بن الأبرص الأسدي.

وفي الشام حبس عمرو بن جفنة الغساني بعض القرشيين بطلب من عثمان بن الحويرث الأسدي بسبب رفض قريش تنصيب الأخير ملكاً عليها من قبل قيصر الروم، ومن بينهم سعيد بن العاص وابن أخته أبو ذيب. وفي الكوفة اتخذ المناذرة سجن الصنّين لسجن أشخاص من بينهم عنترة بن شداد وعدي بن زيد.

الخلفاء الراشدون

ما كان سارياً في عهد الرسول من حبس المتهمين في المسجد والبيوت استمر في خلافة أبي بكر. ولكن عندما جاء عمر ابن الخطاب، ابتاع داراً خلف دار الندوة (مكان كان يجتمع فيه حكماء قريش وشيوخها) من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم بمكة واتخذها سجناً دائماً.

ويصف أبو غدة هذه الدار بساحة واسعة تحيط بها الحجرات والمرافق، وتتخللها أشعة الشمس والهواء، وتتوفر فيها الأسباب الصحية الأخرى.

ونشأت السجون في عهد عمر رغم أن الإسلام لم يذكر صراحة الحبس كعقاب لجرائم أو مخالفات. ويشرح أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور علاء رزق لرصيف22 أن المسلمين في بداية عهدهم كانوا يحتكمون إلى الشريعة في إنزال العقاب بمرتكبي بعض الجرائم مثل السرقة والزنى، وغالباً ما كانت هذه العقوبات تُنفّذ بشكل فوري بعد ثبوت التهمة.

وظهر في تلك الفترة سجن في قصر العذيب في العراق، كان ملحقاً بالقصر الذي يسكنه سعد بن أبي وقاص (595 – 674). كما اتخذ والي الكوفة المغيرة بن شعبة سجناً من قصب وحبس فيه معن بن زائدة حين زوّر خاتماً عليه نقش خاتم بيت المال.

وعلى نهج عمر، سار عثمان بن عفان، خاصة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية. فأنشأ سجن المدينة وحُبس فيه ضابئ بن الحارث التميمي وكان شاعراً وقاطعاً للطريق وناهباً للأموال، وكذلك سِجن القموص في خيبر وحُبس فيه الشاعر عبد الرحمن الجمحي لطول لسانه وهجائه الناس، ذكر رزق.

أما علي بن أبي طالب فكان أول من بنى مكاناً للسجن وجعله في الكوفة، واتخذه من القصب وسماه "نافعاً" وحبس فيه اللصوص فنقبوه وهربوا، فبنى غيره من الطين والحجارة وسماه "مخيّساً".

وبعد ذلك بنى سجناً في البصرة، واتخذ له حرّاساً من السبابجة، وهم قوم من السِند استوطنوا البصرة.

دوافع السَجن

كان حبس المتهم في بداية عهد السجون في الإسلام يتم حتى يُستبان أمر الشخص، ما إذا بريئاً أو مذنباً. وبحسب رزق، كان الحبس أيضاً عقوبة تعزير لشخص ارتكب جريمة لم يرد بشأنها حد في القرآن.

وأثار انتشار السجون جدلاً فقهياً بين العلماء حول مشروعية اتخاذ الحاكم موضعاً للحبس، رغم اتفاقهم على مشروعية الحبس ذاته. وبحسب عبد الوهاب مصطفى ضاهر في كتابه "عمارة السجون"، ذهب فريق إلى أنه لا ينبغي للحاكم أن يتخذ مكاناً للحبس، "لأنه لم يكن للرسول ولا خليفته أبي بكر سجن، ولكن إذا لزم الأمر يعوّق بمكان من الأمكنة"، بينما رأى فريق ثانٍ أنه يجوز للحكام أن يفردوا مكاناً خاصاً للسجن مستدلين بما فعله عمر بن الخطاب.

السجون في الدولة الأموية

ونتيجة لاتساع الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب بعد عصر الخلفاء الراشدين، توسع الحكام في اتخاذ سجون خاصة بعد تزايد الحركات السياسية المناوئة للسلطة، ورغبةً في السيطرة على الجرائم الجنائية التي انتشرت مع زيادة رقعة الدولة. وقيل إن معاوية بن أبي سفيان (602 – 680) أول مَن أنشأ السجون بشكلها المعروف اليوم وخصص لها حراساً.

وبنى عبدالله بن الزبير سجناً في مكة، خلف دار الندوة، عُرف بسجن عارم نسبة إلى سجين قتل فيه. ويبدو أنه كان في الجزء الخلفي من دار الندوة وقد أغلق بعد مقتل ابن الزبير (624 – 692).

وبحسب أبو الرب، أنشأ الأمويون سجوناً في الحجاز، وحوّلوا دار عبد الله بن سباع الخزاعي في المدينة إلى سجن عُرف بسجن ابن سباع. كما تحوّلت دار ابن هشام في المدينة إلى سجن في أواخر العصر الأموي.

وأنشئ سجن في عسفان بين مكة والمدينة في خلافة هشام بن عبد الملك، وسجن آخر في تباله قرب الطائف. وكذلك ظهر سِجن في العقيق من بلاد بني عقيل، وسجن دوّار في اليمامة.

أسباب سياسية

الجرائم الجنائية مثل القتل وإلحاق الأذى الجسدي بآخرين وقطع الطريق والاختلاس والسرقة والتزوير زجت بكثيرين في السجون، فكان القاتل يُسجن حتى ينال قصاصه أو يعفو أولياء المقتول عنه أو يقبلون الدية، وإذا قتل السيد عبده فإنه يسجن أيضاً ولا يُقتل.

وبجانب الجرائم الجنائية، مثلت الأسباب السياسية طريقاً مؤدياً لدخول السجن في تلك الفترة، كالانتماء إلى حركات المعارضة السياسية مثل الخوارج والشيعة، والمشاركة في الثورات، وهجاء الخلفاء.

وبحسب أبو الرب، "حبس الوليد بن عتبة، والي المدينة في عهد يزيد بن معاوية، كلاً من عبد الله بن مطيع العدوي القرشي، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري لأن هواهما مع ابن الزبير وميلهما إليه".

بينما حبس عبد الله بن الزبير الشاعر أبي صخر الهذلي في سجن عارم بمكة لأن هواه مع بني أمية، ولأنه مدح الأمويين وذم ابن الزبير في وجهه.

ونقل الوليد بن عبد الملك (668 - 517) أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية من المدينة إلى دمشق، وحبسه هناك بعدما بلغه أنه يدعو لنفسه، وأن له مؤيدين في العراق يتخذونه إماماً ويحملون إليه صدقاتهم.

وروى أبو الرب أن "الخليفة هشام بن عبد الملك (691 – 743) حبس الشاعر الفرزدق في سجن عسفان لأنه مدح علي بن الحسين زين العابدين (658 – 713) ونوّه بذكره أمام الشاميين في موسم الحج بمكة مخالفاً بذلك رغبة الخليفة".

وسجنت الدولة بعض الأشخاص لأنهم حاولوا اغتيال الخليفة أو الوالي. وفي عهد معاوية، سَجن مروان بن الحكم (623 – 685) والي المدينة رجلاً حاول اغتياله بسكين، أثناء قيامه للصلاة في المسجد النبوي.

وتعرّض بعض المشاركين في الثورات التي قامت ضد الدولة للحبس. أَسَر عبد الله بن الزبير أخاه عمراً الذي قاد جيشاً أموياً لقتاله، وحبسه في سجن عارم حتى مات، وسجن عدداً من المشاركين معه ومنهم زيد مولى بني زهرة والملقب بعارم، ذكر أبو الرب. ولكن مصادر أخرى تقول إنه قُتل تحت ضرب السياط وصُلب.

وسجنت الدولة بعض ولاتها وعُمالها بتهمة اختلاس أموالها. ومن الوقائع اتهام ابن الزبير ابنه حمزة، عامله على البصرة، بتبذير الأموال وحبسه في سجن عارم بمكة. وسجن هشام بن عبد الملك عامله على سعاية الحجاز الحكم بن المطلب المخزومي بتهمة اختلاس أموال الصدقات التي كان يتولى جبايتها وصرفها في غير مكانها.

وساق رفض البيعة للخليفة أو الوالي كثيرين إلى الحبس. فقد سَجن عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية ومعه 15 رجلاً من بني هاشم في سجن عارم بمكة لأنهم رفضوا أن يبايعوه خليفةً. وفي عهد عبد الملك بن مروان حبس هشام بن إسماعيل المخزومي والي المدينة الفقيه سعيد بن المسيب المخزومي سنة 705 لأنه رفض البيعة لأبناء عبد الملك، الوليد وسليمان، بولاية العهد.

وأوضح أبو غدة أن عقوبة الحبس كانت تُنزل بحق مرتكبي جرائم نزلت في بعضها حدود، وأرجع ذلك إلى أن حدود الإسلام وحدها لم تكن تردع بعض المجرمين الخطرين، فكانوا يُسجنون لحماية المجتمع منهم.

النظام الإداري للسجون

كان لكل سجن إدارته الخاصة التي تتألف من مدير السجن (صاحب السجن أو السجان) الذي يشرف على إدارة ومراقبة سلوك السجناء واستقبال الجدد منهم وإعداد ملف لكل سجين فيه اسمه وتهمته وتاريخ دخوله السجن، ذكر أبو الرب.

ومن موظفي السجن "الجلواز" الذي يتولى اقتياد المحكوم عليهم من مجلس القاضي إلى السجن، والأعوان الذين ينفذون أوامر الوالي بزج المتهمين داخل أسواره، والحدادون الذين يقيّدون السجناء عند حبسهم، ويفكون قيودهم عند إطلاق سراحهم، إضافة إلى طباخين وخبازين يعدون الطعام والخبز للسجناء. وعينّت الدولة أحياناً إماماً للسجناء لكي يصلي بهم.

وبحسب أبو غدة، "كانت السجون منذ العصور الإسلامية الأولى تتبع سلطة القاضي، الذي كان ينظر في أمور المتهمين ويحكم على مَن تثبت إدانته".

إلا أن بعض التعديلات الإدارية أُدخلت على اختصاص القاضي فتقلصت سلطاته وزيد في سلطات الوالي، فصار الأخير ينظر بنفسه في أمر أهل الريبة والتهمة بل راح يتخذ سجناً خاصاً به هو أشبه بسجن الموقوفين. أما القاضي فراح ينظر في التهم المدنية والجزائية، واتخذ سجناً خاصاً لذلك هو أشبه بسجن المحكومين. واختلف توزيع هذه الصلاحيات والاختصاصات باختلاف الأزمان والأحوال، بحسب أبو غدة.