من الخليج وبالتحديد من قوارب صيادي اللؤلؤ..

"فنّ الصوت" وملك ملوكه محمد بن فارس

ملك فن الصوت محمد بن فارس

وكالات

المتابع بشغف حلقة برنامج "ذا فويس"، ربما قد فوجئ بالمتسابق البحريني فيصل الأنصاري.

منذ زمن لم تقفز الساحة أصواتاً قادمة من المملككة الخليجية الصغيرة، أشهرهم على الإطلاق خالد الشيخ الذي لمع في أوائل الثمانينات إلى جوار الراحل علي بحر وأحمد الجميري.

ولكن المتسابق الشاب اختار الذهاب لما هو أبعد من ذلك، مثل صيادي اللؤلؤ الذين اعتادوا ترك شواطىء المنامة والغوص في أعماق البحر بحثاً عن كنوزها الثمينة.

هذا الكنز في حلقة "ذا فويس" كان أغنية "دمعي جرى" لمن يعرف بـ"ملك فن الصوت"، محمد بن فارس، أحد رواد هذا الفن شديد الخصوصية في الخليج العربي والمعروف باسم ملك ملوك فن الصوت.

قبل الحديث باستفاضة عن محمد بن فارس، لابدّ من التعريف بـ"فن الصوت".

ما هو فنّ الصوت؟

وفقاً لكتاب "الأغاني الكويتية" ليوسف الدوخي فإن "فن الصوت" هو غناء رجالي يقدمه مطرب بمصاحبة فرقة تستخدم آلات محددة مثل "المرواس" وهو طبل صغير يدق عليه بإيقاع محدد يتشابك مع التصفيق بالأيدي في نبضات متقطعة.

يشترط فن الصوت أيضاً مصاحبة رقصة تدعى "الزفان" ويؤديها راقصان في حركات تتماشى مع الإيقاع السائد خلال الأغنية.

يغنى فن الصوت على أوزان محددة فالأربع نبضات تسمى صوت شامي، أما الست نبضات فيسمونها صوت عربي، بينما الصوت الخيالي فيتكون من اثني عشر نبضة:

انتشر فن الصوت في ربوع الخليج انطلاقاً من الكويت والبحرين وصولاً إلى اليمن، خاصة مع استخدام القصائد اليمنية كقماشة مناسبة لنسج موضوعات تتماشى مع الثقافة البدوية.

إلا أنه كان سبباً في خلاف كبير بين المؤرخين الموسيقيين في البحرين والكويت حيث نسب كل فريق ميلاد هذا الفن لبلاده إلى أن تم الإتفاق على نسبة هذا الشكل الموسيقي للشاعر الكويتي عبد الله الفرج الذي عاد بمجموعة من المقطوعات الموسيقية الهندية بعد رحلة تجارية إلى بومباي أواخر القرن التاسع عشر.

فنّ ولد في قوارب صيادي اللؤلؤ

يقول الباحث والمؤرخ إبراهيم حبيب في كتابه "رواد الغناء في الخليج والجزيرة العربية"، أن عبد الله الفرج كان ينتمي لأسرة تتاجر في اللؤلؤ وربما هذا سر رحلاته الدائمة إلى الهند وإيران واليمن وماليزيا وبلاد المحيط الهندي.

ويكمل بأنه خلال رحلاته، عاد بمقطوعات موسيقية تجمع بين الإيقاع الهندي واليمني وعندما سمعها مطربو وعازفو الخليج طوروها لتتبلور في قالب فن الصوت.

هذا الفن المولود في قوارب تجار اللؤلؤ احتاج سنوات عديدة حتى يصل لشكله الحديث بعد التزاوج المستمر بينه وبين الإيقاعات الهندية والإيرانية واليمنية، إلا أن تطوره المتسارع ارتبط ارتباطاً وثيقاً باسم الفنان البحريني محمد بن فارس المولود في المحرق سنة 1895.

محمد بن فارس

تعلم محمد بن فارس العزف على العود من شقيقه الأكبر عبد اللطيف بن فارس، ثم حفظ المقامات والطقاطيق الدمشقية والمصرية والعراقية ليغنيها بمصاحبة فرقة ضمت عازف الكمان صالح الكويتي وعازف القانون داوود بن فارس.

إلا أن ارتباطه بفن "الصوت" بدأ عام 1913 عندما التقى بالفنان الحجازي عبد الرحيم العسيري المعروف باسم اليماني أو الحجازي، ومعه تعلم بن فارس أصول استخدام الإيقاعات المتداخلة في فن الصوت بين التصفيق والدق على "المرواس" بالتزاوج مع نغمات العود.

محمد بن فارس الذي تبلورت معه هوية فنّ الصوت

كان العسيري مولعاً بالسفر والإطلاع على الأشكال الموسيقية المختلفة بين اليمن والعراق والهند وإيران وحتى السودان، في حين ظل شغفه الأول هو تطوير فن الصوت ليصبح فنا خليجياً خاصاً يحمل بصمة هذا المجتمع الذي رآه متعدد الثقافات والأوجه مابين مجتمع البدو الصحراوي ومجتمع الصيادين الشاطئي.

لم يمتلك العسيري الوقت ليكمل مشروعة إلا أن تلميذه محمد بن فارس، نجح في اكتشاف التوليفة الأنسب لتطوير هذا الفن.

فبنظرة بحثية لنشأة "الصوت" سنكتشف أنه اعتمد قبل مرحلة محمد بن فارس اعتمادا كلياً على المدرسة الحجازية الطربية القائمة على القفز فوق النغمات مثل السلم الخامس السوداني، كان شكلاً صعب الإستساغة فنياً بالنسبة للمستمعين المنتمين لثقافات أخرى.

إلا أن بن فارس عمد إلى مزجه بالمدرسة التطريبية الأزهرية القائمة على توالي النغمات وهي الفلسفة المتبعة في التلاوة المصرية للقرآن بل أضاف لها نصوصاً شعرية من التراث اليمني وأخرى من "ألف ليلة وليلة".

كما استقى أيضاً بعض النصوص من "موطأ" مالك وكتاب "الأغاني للأصفهاني"، هذا تزامن مع رحلته هو الآخر إلى الهند مطلع العشرينات كي يدرس الإيقاعات الهندية وما طرأ عليها من تحديثات.

المثير أن تطور الأشكال الموسيقية الخليجية اعتمد بشكل كبير على المزج مع الموسيقى الهندية شرقاً والمصرية والشامية غرباً.

ووفقاً لكاتب "صناعة التاريخ بالتأويل" للباحث حسام أبو اصبع، فإن فن الصوت كان في حاجة ماسة للتلاقي مع ثقافات موسيقية أكثر رحابة كي يصبغ بصيغ احترافية تمنحه القدرة على البقاء والتطور وهو ماتمثل في الإيقاع الهندي من جانب، والتنوع الموسيقي في استخدام الآلات لدى المدرسة الموسيقية المصرية والشامية من جانب آخر.

فظهر استخدام الكمان والقانون والعود في أغنيات الصوت خلال عشرينات القرن الماضي وهي الحقبة التي شهدت التطور الحقيقي لفن الصوت.

الدمع والبكاء والرحيل والغربة والهجر: مفردات حاضرة في التغريبة الخليجية

على مستوى الكلمة عبرت أغنيات محمد بن فارس عن طبيعة المجتمع البحريني وربما الساحلي الخليجي بشكل واضح إذ كانت مفردات مثل الدمع والبكاء والرحيل والغربة والهجر حاضرة طوال الوقت لتكتب تغريبة خليجية الهوى بنكهة موسيقية تمزج الإيقاع الهندي.

وهذا ما يفسر الارتباط الدائم بين "فن الصوت" وحياة صيادي اللؤلؤ عندما كانوا يرددون أغنياته في رحلات الصيد والتجارة التي يغتربون فيها عن عائلاتهم لأشهر عديدة.

من هنا تبرز قيمة محمد بن فارس كونه يمثل انعكاساً حقيقياً للهوية الثقافية البحرينية المرنة بقدرتها على التعاطي مع الثقافات الأخرى في كافة مناحي الحياة بداية، من الموسيقى وصولاً للمأكل والملبس.

فلم تكتسب على مدار تاريخها هوية اجتماعية أو ثقافية مستقلة فحسب، بل أصبحت مثالاً واضحاً على التشابك بين ثقافة المجتمعات الرحالة وطبيعة المجتمعات المستقرة استناداً الى امتدادها الجغرافي نحو شبه الجزيرة العربية.

عام 1932 سافر بن فارس إلى العراق لتسجيل أغنياته فسجل خمس أسطوانات ضمت باكورة أعماله من فن الصوت أنتجتها شركة "ماستر فويس" البريطانية التي كانت معنية بجمع أنواع مختلفة من الفنون الشرق أوسطية.

تحكي الروايات الشعبية أن هذه المرحلة شهدت خلافاً كبيراً بين محمد بن فارس وفنان آخر هو ضاحي بن وليد الذي يعد أوّل تلاميذ بن فارس، بل وشريكاً وشاهداً على بدايات مشروعه الفني، فيما كانت نفس الشركة تتولى تسجيل أغنياته هو الآخر فقررت عقد جلسة صلح بينهما على هامس التسجيل.

ولكن محمد بن فارس أقدم خلال هذه الرحلة على موقف آخر أكثر غرابة حيث دعته الشركة للمشاركة في إحياء حفل ستغني فيه كوكب الشرق أم كلثوم على أحد مسارح بغداد فرفض بن فارس العرض متعللاً بأن فنه لا يناسب هذا الشكل من الحفلات.

بعد أربع سنوات وتحديداً في صيف 1936، سافر بن فارس إلى حلب كي يسجل عشر اسطوانات ثم سافر بعدها بعامين إلى بغداد ليسجل 11 أسطوانة كانوا آخر انتاجاته الفنية المسجلة.

إلا أن الملفت لتجربة بن فارس هو ذلك التطور الكبير الذي طرأ على تسجيلاته في استخدام الآلات الموسيقية وكذلك الاستعانة بقصائد عراقية منها ديوان "الطراز الأنفس" للشاعر العراقي عبد الغفار الأخرس.

كما ظهر في التسجيلات تفاعلات لما عرف وقتها باسم "البطانة" وهم مجموعات من المستمعين يحيطون بالمطرب ويبدون سلطنتهم بكلمات المدح والإشادة مثل "الله عليك يامولانا"، أو "الله يفتح عليك ياشيخ محمد"، وهو طقس ظهر في البداية خلال تسجيلات مقرئي القرآن مما يؤكد تلك النظريات التي تنسب الفضل في تطور الموسيقى العربية قديماً إلى أثر تلاوات القرآن ومدارسها المختلفة.

شهد تراث محمد بن فارس محاولات تطوير عديدة أبرزها محاولة الفنان البحريني أحمد الجميري الذي قدمها أغنية "دمعي جرى" مستخدماً أصوات الكورال كبديل لصوت بن فارس واستعان بالموزع خليفة زيمان الذي استبدل نغمات العود بخط وتريات ممتد على مدار الأغنية.

وظهرت التجربة بشكل حديث مثير للإعجاب وهو ما يعني أن رؤية محمد بن فارس الأصلية لهذا الفن كانت مرنة ومتطورة بشكل قابل لإعادة تناولها بعد عقود طويلة في قالب موسيقي مناسب لذائقة المستمع العصري.

عام 2005 قامت الحكومة البحرينية بتحويل منزل محمد بن فارس إلى مركز ثقافي وفني بعد أن قامت بتطويره وترميمه بالكامل لتتيح للزوار مشاهدة تراثه وصوره وجوانب مختلفة من حياته ، ثم افتتحت قاعة موسيقية تحمل اسمه تكريماً لدوره البارز في تطوير فن الصوت الذي يعد أحد روافد التراث الخليجي بشكل عام.