قصة قصيرة..

رحلة على أكتاف أينشتاين

ألبرت أينشتاين

إبراهيم أمين مؤمن (القاهرة)

العالم 2035 ميلادية - جلس بروفيسور برنارد الحائز على جائزة نوبل للفيزياء ثلاث مرات متوالية، متوسطاً حديقته يشرب قهوته، يسترق أغاريد البلابل ويتأمل الأزهار التي تنمو بأريحيّة تامة.

يحاول قدر ما يستطيع أن يعيش الطبيعة الساحرة التي يحاول الإنسان الاستئثار بها لنفسه، يتناول صحيفة واشنطن بوست.. الخبر يملأ الصفحة الأولى:

عنوان: البنوك الصينية تواصل التهامها للنقد الأوروبي.
عنوان: بدء تحرّك الحشود العسكرية المتمركزة على جانبي المحيط الأطلسي والهادي والهندي.
20 غواصة نووية و40 صاروخاً باليستياً و7 حاملات تعمل بالوقود النووي بالإضافة للقطع البحرية لدول الناتو تتجه لضرب الصين وروسيا.

عنوان: "التاريخ يعيد نفسه في الحرب العالمية الثالثة 2035

داخل المقال: "الوطن العربي المستَعمَر غربياً يشارك في هذه الحرب العالمية الثالثة أملاً في الاستقلال من مستعمريه الغربيين".

"العرب المستعمَر إثْر الأزمة الاقتصادية التي ضربتْ أوروبا وإفلاس النقد البريطاني والأميركي ينضمون لقوى التحالف الغربية لضرب الآسيويين".

عنوان: التحالف الروسي الصيني الآسيوي يتحرك بأساطيله لمواجهة أساطيل حلف الناتو.
عنوان: الحرب الثرمونووية تدق الأبواب.

داخل المقال "تحذير.. تلك الحرب النووية حرب عالمية ثالثة تبيد العالم، حرب ليس فيها ظافر، الكل مهزومون".

عنوان: الشعوب بدأت في حفر الأنفاق العميقة أملاً في النجاة من تأثيرات الحرب النووية.

ارتعدتْ أوصال برنارد وتدفقتْ دماؤه في عروقه وتعرق جسده كله وتتابعتْ أنفاسه بسرعة، توثبتْ بعدها في روحه غريزة التحدي والمجابهة فتمالك أعصابه وانتفضَ قائماً وقال: "لعنة الله على مشروع مانهاتن الذي اُخترعتْ فيه القنبلة الذرية وضُربتْ بها اليابان"، وأردف: "والآن تمتد كوارثه لتنهي الجنس البشري بحرب ثرمونووية".
وتابع: إنها حرب عالمية ثالثة.. إنها حرب الفناء.

ثم طأطأ رأسه بعزيمة المتوجع: إذاً لا بد من المغامرة والمواجهة.
ثم قال صارخاً: "سآتي إليك يا روبرت أوبنهايمر.. ما وضعتَ لي خياراً لا بد من السفر إليكَ.. إلى الماضي.

توجه إلى مركز الإطلاق بالولايات المتحدة "جزيرةِ ميريت بالمحيطِ الأطلسيّ؛ ليقوم برحلة الذهاب إلى الماضي علّه يمنع روبرت أوبنهايمر إيقاف المشروع، مشروع مانهاتن للقنبلة الذرية.

(الإطلاق)

(سفينة الفضاء الأميركية "تعمل بمحرك ألكوبير "تنطلق من جزيرة مريت)، هكذا نقلها الجواسيس للمخابرات الروسية.

وعند تلقّي الرسالة تعجب الروس وقالوا: رحلات فضاء وطبول الحرب تُدقُّ.. هزوا رؤوسهم مردفين القول: لا بد أنّ في الأمر خدعة فاحذروهم.

برنارد للبنتاغون: انتظروني سآتيكم بوسائل تُخفي النووي من حوزتنا وحوزتهم، فوَافقوه تجنباً لوقوع هذه الحرب.
وافقوه أن يكونوا البادئين بالسلم؛ لأنهم على قناعة أنهم هم الذين بدأوا بالحرب من جهة، ومن جهة أخرى هم الذين اخترعوا تلك القنبلة الملعونة، وافقوا على رحلة السفر إلى الماضي لمقابلة أوبنهايمر، ومحاولة إقناعه بعدم صنع القنبلة الذرية؛ لأنها ستدمر العالم الآن.

الآن تنطلق المركبة من منصة الإطلاق بجزيرة ميريت متجهةً نحو كوكب عطارد، فلما وصل برنارد أخرج عدسات أينشتاين لأمرين:
تحديد انحراف الزمكان الموجود بالقرب من الكوكب، وتحديد مكان الثقب الدودي المتمركز في الثقب الأسود.

فماذا رأى برنارد؟
رأى وحشاً أنيابه كالجبال، رأى جحيماً مستعراً، ما يقترب شيء من أفق الحدث إلا التهمه ومزقه أشلاء، ترقص الأشياء رقصات الموت الأخيرة.
لا يوجد ضوء حوله؛ لأنه يلتهمه.
فتحة الثقب الدودي تنفتح وتنغلق في جزء من الثانية.
الثقب الأسود يدق عنق الثقب الدودي باستمرار فينغلق.
إشعاعاته فتاكة، فهي تستطيع أنْ تخترق الجدران الفولاذية السميكة.
فبارك الربُّ في عدسات أينشتاين التي أبصرتني هذه المحرقة.
حقاً.. جهنم بمعنى الكلمة.

(الرحلة)
أمسك برنارد بآلة الزمن حتى يحدد موعد فتح الثقب وموعد غلقه ويخبر الحاسوب.

شغّل محرك صاروخ عادي لتسيير السفينة، فلما اقتربتْ من أفق الحدث، قام الحاسوب بتشغيل محرك ألكوبير الذي يسبق سرعة الضوء تزامناً مع فتح الثقب قبل دق عنقه؛ إذ إنه من المستحيل الاقتراب من أفق الحدث والإفلات من الثقب الأسود إلا بمحرك يسبق سرعة الضوء.

كما دعاني الحاسوب لارتداء بدلة السبات؛ إذْ إنّ جسدي لن يتحمل الجاذبية، ومن شأن السبات أنه يخفّض درجة حرارتي تدريجياً حتى تتوقف وظائف جسدي ويتجمد الزمن وأموت موتاً مؤقتاً حتى لا تتأثر أعضاء جسدي من الجاذبية والنار المستعرة.

وقبل لحظات من السبات والدخول في الثقب الدودي وجدتُ جهنم السوداء تتلظّى أمامي.
ربّاه.. آلة الزمن تسجل الماضي في لحظات تشغيل ألكوبير.
ربّاه.. صوت الالتهام وتكسير عظام ولفحات من أفواه جهنم السوداء.
ربّاه.. الثقب الدودي ينفتح وينغلق فلا أكاد أرى أسنانه من سرعته.
ربّاه.. إشعاعات قاتلة تصدر منه كمليارات من الأشعة الليزرية.
ربّاه.. أهذا ثقب أسود أم جهنم الرب؟

ذهبتُ في السبات ولم أفق إلا على نداء الحاسوب يناديني: أفِق يا برنارد فنحن في مرحلة الاختراق الآمن.

أفاق ونظر إلى آلة الزمن مستقرئاً فيها التاريخ، فلما وصلتْ عند 1945 "مشروع مانهاتن.. مختبر لوس ألاموس الوطني بأميركا"، أوقف الآلة... وهذا ما أحصته الآلة من الماضي:
2035: حرب ثرمونووية محتملة جراء التصعيد.
2034: تصاعد الأزمة الأوروبية - الآسيوية بسبب تسبب آسيا في انهيار البنوك الأوروبية - الأميركية.
2033: منظمة الأمم المتحدة تغلق أبوابها.
2032: بريطانيا وأميركا وإسرائيل وحلفاؤها يحتلون معظم الأراضي العربية.
2030: انهيار البنك البريطاني (HSBC) وجي بي مورغان الأميركي.
2018: هجوم تركي على الأكراد بسوريا.
2017: البنوك الصينية تلتهم البنوك الأوروبية.
2011: ثورات الربيع العربي.
2003: الاحتلال الأميركي للعراق.
2001: بداية الغزو الأميركي لأفغانستان.
1990: الغزو العراقي للكويت.
1980: حرب الخليج الأولى.
1967: العدوان الثلاثي على مصر.
1955: البرنامج النووي الصيني.
1952: تفجير أول قنبلة ذرية بريطانية.
1949: قنبلة اختبار السلاح النووي الأولى للاتحاد السوفييتي.
1948: احتلال إسرائيل لفلسطين.
1945: القنبلة الذرية على اليابان.
1945: مشروع مانهاتن.. مختبر لوس ألاموس الوطني بأميركا.

برنارد على مشارف أرض المادة المضادة.
غلف برنارد المركبة بالقارورة المغناطيسية التي تحتوي على مجال مغناطيس قوي فلا تنفجر عند نزولها الأرض المضادة.
وما بقي إلا دقائق معدودة ويقابل أعضاء مشروع مانهاتن.

أخبره الحاسوب بأن الصوت ينتقل عبر هواء مادة مضادة أيضاً فلا بد أنْ تُغلف بطيف مغناطيسي حتى لا تنفجر في الهواء.

واستطرد قائلاً: برنارد معك 15 دقيقة حسب قراءتي، فالمجال المغناطيسي لن يتحمل أكثر من ذلك، بعدها ستنفجر القارورة إثْر تفاعلها مع المادة المضادة، كما أننا سنصطدم بالمجال المغناطيسي الداخلي وننفجر، فقوة تحمل القارورة من الداخل والخارج 15 دقيقة.

(اللقاء)

الزمن 3 أغسطس/آب 1945 أي قبل إلقاء القنبلة بثلاثة أيام:
تركا المركبة ونزلا بمركبة هبوط إلى الأرض المضادة فوق سطح مختبر لوس ألاموس الوطني بأميركا، هبطا وهما داخل المجال المغناطيسي للقارورة على "روبرت أوبنهايمر".
وجد برنارد كل شيء ذا بُعد خامس وهو الجاذبية.

رآه في خمسة أبعاد يعد هو وفريقه تجهيزات مشروعهم، مشروع مانهاتن.. فكلمه.
برنارد: روبرت أنا برنارد، أعلم أنك لن تعرفني، جئت من المستقبل لأقابلك "يقولها والدموع تنهمر من عينيه".. العالم سيحترق.
روبرت: أي مستقبل؟ وأي عالم هذا الذي سيحترق؟ إنني أريد الثروة، أريد المجد، أريده لي ولبلدي.. "يقول وهو يتفاخر".

برنارد: آه يا لعين! يا جبان! أعرفك ما لن تعرفه إلا بعد وقوعه.. انتهِ عنْ عملك هذا وإلا سوف يلقون قنبلتك على اليابان، والعالم في زمني الآن سيفنى بسببك.. روبرت العالم يحترق والناس حفروا الأنفاق فإن لم يموتوا بالنووي ماتوا من الاختناق في الأنفاق "يقولها صارخاً دامعاً ممتعضاً مستجيراً".

روبرت: سترتدع قوى التحالف ويستسلمون، سترتدع اليابان، سترتدع ألمانيا، سترتدع كل دولة لا تملك سلاحاً نووياً وأحوز أنا الجائزة ولن يموت أحد.

برنارد: روبرت القوة مدعاة للطغيان، والعند يورث الكفر، لن يرتدع أحد.. روبرت الآن آسيا تمتلك نووياً بعد أن كانتْ دولتك فقط التي تود امتلاكه، الأرض كلها ستحترق.. سقطت الرأسمالية البريطانية، أعلن بنك HSBC الإفلاس، أعلن وول ستريت الإفلاس، أعلن وجي بي مورغان الأميركي الإفلاس، الصين قامتْ بتعويم "اليوان" وربطته بالدولار الأميركي فضربتْ الاقتصاد الأميركي والبريطاني، بريطانيا وأميركا استعمرتا دول الشرق لمحاولة ضرب الصين والروس وحلفائها، ألمانيا انضمت لآسيا فهي لم تنسَ ثأرها.

روبرت: عندما تمتلك بلدي النووي سنكون أغنى دولة وأقوى دولة وأعظم حضارة وسيُخلد اسمي واسم عائلتي عبر التاريخ.

برنارد: أقول لك أنا من المستقبل ومات الشعب الياباني، والآن يريد الانتقام لِما حدث له سنة 1945 وستفنى الأرض الآن...

همّ برنارد بإخراج نفسه من القارورة ليقتله ويتخلص منه، لكن سحبه الحاسوب ومضيا نحو مركبة الهبوط، والتي تعمل أيضاً بآلية الصعود.

(توضيح الألغاز)
وكلّمه الحاسوب، قائلاً:
البيانات المسجلة لديّ تقول إنّ روبرت حيّ ما دمنا نحن تحت تأثير معادلة أينشتاين لكنه لا يسمعك... وإنّ الذي كان يكلمه الضمير في نفس كل إنسان، أما الردود التي وصلتك فهو نفسه الشريرة المتعجرفة الأنانية التي كانتْ تدفعه لنجاح مشروع القنبلة.

برنارد: كيف؟
الحاسوب: أنت تعلم يا برنارد في نظرية أينشتاين العامة أننا استطعنا أن نرجع إلى الماضى.. ونحن داخل فقاعة الالتواء حدثتْ تشوهات كبيرة للزمكان خارج الفقاعة وانضغط المكان أمامها، كانتْ كتلة السفينة كمركز ثقل الأرض والزمن بداخلها ظل ينكمش حتى دارتْ العقارب بالعكس لأننا تخطّينا سرعة الضوء.

ورغم الانضغاط لم نمتْ لأننا صرنا كالريح، مثل الملائكة أو الشياطين وتمدد المكان ورأينا ولامسنا المكان أمامنا نتيجة التشوه الزمكاني بسبب سرعتنا.
برنارد: أعلم.

الحاسوب: ما لا تعلمه أنك استطعتْ أن تعود إلى الماضي، ولكنك مجرد ريح أو هواء أو شبح من الجان.
برنارد: أعلم.

الحاسوب: أتعلم أن برنارد الآخر الآن على أرضك ويكلّم روبرتك أيضاً، برنارد عكس شحنتك، مادتك المادة.
لأن هناك تماثلاً كاملاً بين هذه الأرض وأرضنا غير أنها تحمل شحنات عكسية.. مادة مضادة.
برنارد: أعلم.

الحاسوب: أتحب أنْ أُخبرك ما لا تعلمه؟
برنارد: نعم.

الحاسوب: نحن خيال وسينتهي، ومصيرك معلق بمصير برنارد الآخر، أرضك، المادة المضادة له.
أتعلم أن روبرت ما سمعك وما رآك؟

برنارد: أنت تُخطّئ النسبية العامة؟.. يقولها مستفهماً مستنكراً.

الحاسوب: النسبية يا برنارد تخص العالم الذي طبقها عملياً وروبرت مستحيل يطبقها معك؛ لأنه ماضٍ وانتهى.
برنارد: نعم.. لكن أنا رأيته وسمعته وكلمته.

الحاسوب: قلتُ لكَ أنت رأيته، لكنه هو ما رآك؛ لأنك طبقتْ النسبية العامة عملياً لكنه لم يطبقها، وكما سبق أن قلتُ لك إنّ الذي كان يكلمه ضميره الذي في كل إنسان، وإنك محجوب عنه؛ لأنك في زمن لم يعشه هو، وما هو بمحجوب عنك؛ لأنك تحت طائلة النسبية... حملكَ أينشتاين على أكتافه.

مضيا وعاد البرناردان كلاهما إلى بلدهما من خلال الثقب الدودي في الجهة الأخرى من الثقب الأسود، وقامتْ آلة الزمن بعملها وبدأتْ تعد نحو زمنه ويراقبها الحاسوب:

1945: القنبلة الذرية على اليابان.
1948: احتلال إسرائيل لفلسطين.
1949: قنبلة اختبار السلاح النووي الأولى للاتحاد السوفييتي.
1952: تفجير أول قنبلة ذرية بريطانية.
1955: البرنامج النووي الصيني.
1967: العدوان الثلاثي على مصر.
1980: حرب الخليج الأولى.
1990: الغزو العراقي للكويت.
2001: بداية الغزو الأميركي لأفغانستان.
2003: الاحتلال الأميركي للعراق.
2011: ثورات الربيع العربي.
2017: البنوك الصينية تلتهم البنوك الأوروبية.
2018: هجوم تركي على الأكراد بسوريا.
......
2030: انهيار البنك البريطاني (HSBC) وجي بي مورغان الأميركي.
2032: بريطانيا وأميركا وإسرائيل وحلفاؤها يحتلون معظم الأراضي العربية.
2033: منظمة الأمم المتحدة تغلق أبوابها.
2034: تصاعد الأزمة الأوروبية الآسيوية حول سياسة الآسيويين في انهيار البنوك الأوروبية الأميركية.
2035: حرب ثرمونووية محتملة جراء التصعيد.

جلس برنارد بعد تلك الرحلة الخطيرة يشرب قهوته على نفس الأريكة، فوجد الصحيفة ما زالتْ مكانها.. وما مر عليه من الوقت إلا الوقت الذي ذهب فيه إلى المختبر والوقت الذي ذهب فيه إلى كوكب عطارد، وكذلك وقت الإياب مُضافاً إليها مدة الحديث بينه وبين روبرت، ومطروحاً منها الزمن الذي مر عليه في اجتياز الثقب ذهاباً وإياباً؛ ذاك لأن سرعة المركبة أعلى من سرعة الضوء، فكانتْ عقارب الساعة تسير بالعكس.

قابله خادم القصر: الحمد للرب على سلامتك يا سيدي.. صحيفتك... "ناولها له الخادم".

فتح الصحيفة: ما زالت بعض الدول الوسيطة تبحث الحلول السلمية دون جدوى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مراجع القصة:
- النظرية النسبية العامة لأينشتاين.
- المادة والمادة المضادة.
- الأكوان المتوازية.
- أسرع من الضوء.
- السفن النجمية.
- الثقوب السوداء والدودية.
- السفر عبر الزمان.