بين الحقيقة والأسطورة..

تونس ذاكرة توثّق التاريخ والأساطير

المدينة العتيقة

وكالات

ما إن تطأ قدما الزائر المدينة العتيقة بالعاصمة التونسية، حتى تتراءى له طرقات مسقوفة تعلوها غرف تطلّ بنوافذها على أجزاء من المدينة.

غرف علوية صغيرة يطلق عليها التونسيون اسم “الصباط”، وهي كلمة أندلسية، وتشكّل هذه الغرف إحدى خصوصيات المدينة، وتجذب السياح ممن يتوافدون عليها، مدفوعين بفضول سبر أسراراها وخفاياها. 

ولهذه “الأصبطة” أسرار وتاريخ ضارب في القدم، فكل واحد منها يستعرض حقيقة تاريخية أو يروي حكاية طريفة، أو يوثّق لأسطورة تناقلتها الأجيال حتى غدت راسخة بالذاكرة الشعبية والاجتماعية، وعالقة بتاريخ المكان.

طرق مسقوفة وغرف علويّة 

الباحث التونسي في التراث، عبد السّتار عمامو، عرّف “الأصبطة” بأنها عبارة عن غرف تعتلي طريقاً مسقوفة، كان الهدف منها بالأساس توسعة المنازل وبناء غرف إضافية فيها. 

وأضاف عمامو، أن تونس تضم نحو ألف “صباط”. 

وبخصوص التّوسعة، أشار الباحث أن العملية لم تكن عشوائية، بل كانت تخضع لقوانين، وتتطلب الحصول على ترخيص البناء من الموظفين المسؤولين عن ذلك في تلك الفترة، والذين كان يصطلح على تسميتهم بـ “قاضي الحسبة ” أو”الدولاتلي”. 

كما يتعيّن على العائلة الراغبة في القيام بتوسعة منزلها، دفع ضريبة مقابل استعمال الجزء الهوائي من الطريق أو الزقاق. 

ووفق الباحث التونسي، فإنه عادة ما تكون تلك الغرف على ملك عائلات ميسورة تضم عدداً كبيراً من الأفراد. 

و”الأصبطة” أو “الصبابط” موجودة، بحسب الباحث، “منذ أواخر العهد الحفصي (627-982هـ |1228 – 1573م)، غير أنّ الحروب العثمانية الإسبانية آنذاك، دمّرت جزءاً كبيراً منها، قبل أن تشهد مرحلة تجديد في العهد الحسيني ( 1705-1957 )”. 

و”الصباط”، كلمة أندلسية في الأصل، يطلقها سكان الشمال التونسي على الطرقات المسقوفة. 

أما في الجنوب الغربي التونسي، وتحديداً في نفطة (جنوب غرب)، فتسمى “برطال” وجمعها “براطل”، وهي الأسقف التي تغطي الطريق وعادة ما تحتضن المجالس الأدبية، وفق المصدر نفسه. 

بين الحقيقة والأسطورة 

يقول عمامو إنّ هناك “أصبطة”، ارتبطت بأحداث سياسية، مثل ذاك الموجود في المقر الحالي لقصر الحكومة، والذي تعتليه غرفة مشرفة على سوق الباي. 

وتعود تسمية السوق إلى الباي الذي كان يحكم تونس، حيث كان يجلس، في كل ليلة 27 من شهر رمضان الكريم، عقب ختم القرآن بجامع الزيتونة المعمور، قرب نافذة الغرفة التي تغطي الطريق، فكان المارة من الأعيان يمرون عبر “الصباط” ويحيونه مجددين له الولاء. 

وأصبح الأمر عادة وتجديداً سنوياً للولاء لصاحب العرش آنذاك. 

وفي نهج “بير الحجار” بالمدينة العتيقة، يقع “صبّاط السّيارة” الذّي ارتبط بحادثة عسكرية، فقد هرب عبره علي باشا الذّي ثار على عمه حسين باي بن علي عام 1735، واستعمل “الأصبطة” لمراقبة الطريق قبل الهروب للاختباء في جبل “وسلات” وسط البلاد. 

ووفق الباحث، فإن “أصبطة” أخرى اقترنت بالروحانيات، منها “صباط المحاسنة”، نسبة لـ”آل محسن”، وهم سادة أشراف من أحفاد النبي محمد، كانوا أئمة لجامع الزيتونة، واحتراماً لهم، أصبح الناس يتباركون بممرّ بيتهم. 

ويتابع عمامو أنّ “المخيال الشعبي كان حاضراً أيضاً، فهناك أصبطة ارتبطت بأساطير ابتدعها التونسيون، وصباط الـ7 رقود (النيام السبعة)” يعدّ أحدها. 

ويقع هذا “الصباط” في “حومة باب سويقة” (بالمدينة العتيقة)، وقد بني بين إحدى البيوت و”الزاوية البُكرية” (مقام ولّي صالح) نسبة لآل البكري، وهم من أحفاد الخليفة عثمان بن عفّان، وكانوا من أثرياء البلاد، كما سبقوا آل محسن في إمامة جامع الزيتونة على مدى قرنين. 

ونسبة لتاريخهم، سمي “الصباط” المحاذي للمقام بـ”7 رقود”، ويشار إلى أنهم عاشوا إلى حدود القرن العشرين، وآخرهم “سيدي البشير البكري” الذّي توفي عام 1924. 

ويوجد أيضاً “صباط العروسة” الذّي ارتبط بـ “خرافة” شهيرة، إذ يحكى أن عروساً لم تكن راغبة في الزوج الذّي اختاره أهلها لها، ومرت عربتها من قبو مظلم يوم زفافها، وبمجرد الخروج منه لم يجدوها. 

واعتبر النّاس حينها أن “الجن” هو من اختطفها، ولكن الأرجح هو أنها هربت، وخوفاً من الفضيحة، ابتدع أهلها هذه القصة، خصوصاً وأن العائلة كانت محافظة للغاية. 

وفي التاريخ التونسي الحديث، كان هناك ممر ارتبط بذكرى لا يرغب التونسيون في استحضارها، ففي قبو مظلم، كان النظام البورقيبي (نسبة إلى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة) يعذّب ويصفي معارضيه، ليسمّى بـ “صباط الظلام”. 

وحتى اليوم، يخشى الكثير من التونسيين المرور عبر “صباط الظلام” وصباط العروسة”، خاصة في أوقات متأخرة من الليل، لاقترانهما بأحداث مخيفة كما تصورها الذاكرة الشعبية. 

كما يوجد في المدينة أيضاً “صباط الـ4 ثنايا (طرق)”، وهو بيت بني بأكمله في تقاطع 4 طرق، في ربض “الحلفاوين” بالمدينة. 

وتسعى السلطات التونسية إلى الحفاظ على هذا الموروث المعماري المميز للمدينة العتيقة، من خلال عمليات ترميم وصيانة قامت بها مؤخراً حتى لا تتهاوى “هذه الأصبطة” وتندثر.