في أقاصي الروح..

الحاجة إلى الشعر في زمن التجويع الجمالي

الشاعر المغربي صالح لبريني

صالح لبريني (المغرب)

(1) : القصيدة تنقيب أبدي عن قيم الجمال والحب والخير، وحفر عميق في الأعماق المندسّة في أقاصي الروح، الروح التوّاقة لمعانقة الأبهى والأجل في الموجود والوجود. واقتناص للغابر الظاهر ـ بلغة أحمد بوزفور ـ في الحياة، وتأمّل في هذا الملتبس والغامض، الصاخب والهادئ، المتموّج والصامت، في العالم الضّاج بضوضاء اليومي، والخرائب المستشرية في حضارة الألفية الثالثة والقتل المتعمّد للإنسان وإنسانيته، للشجر الذي يهب للكائنات أوكسجين الاستمرارية في الوجود، للضوء النابع من طفولة مغتصبة في أحلامها الصغيرة والبريئة، وفي ذات الإنسان المطوّقة بسلاسل العبودية الجديدة المتخلّقة من رحم رأسمالية هجينة تروم تسليع الإنسان ومن تمّ زرع التجويع الجمالي في خفاياه، وإشاعة البشاعة والقبح، الابتذال والضحالة في الفكر والثقافة والحياة. لهذا فالشعر، في هذا السياق، يبقى الفن التعبيري لمقاومة كل هذه التجليات البغيضة والمشينة في حق الإنسان للاستمتاع بالحياة والتغني بإيقاعاتها المختلفة، التي تسمو بالروح وتعمّق الشعور بأهمية الجمال.

(2)

إن الأمر يدعو اليوم، وفي هذه اللحظة المفارقة، إلى ضرورة الانتصار للشعر كوسيلة ليس لتفريغ المكبوتات والتعبير عن الليبدو النفسي ـ حسب التحليل النفسي ـ وهو تحليل يقزّم قيمة الإبداع الشعري، الذي جوهره البحث عن الكينونة باللغة وفي اللغة، والوجود بتعبير هيدغر، لأن ما يبقى يبدعه الشعراء على حد قول هولدرلين، فالشاعر يخلق ويبدع عوالم نابضة بالحياة، ومنذورة للقلق الأنطولوجي حول وجوده، ووجود الآخر، الشيء الذي يدفعنا للتأكيد على أهمية الشعر ودوره في ترسيخ أحقيّة الإنسان في السير حثيثا صوب المناطق البعيدة والقصيّة بغية الكشف والفتح. فالثاني رغبة ذاتية تحفّز الشاعر إلى خوض غمار المغامرة واختراق المعلوم للقبض على المجهول. أما المقصود الأول فهو تعبير عن الذهاب بعيدا نحو التخوم التي تظل في حاجة إلى تحطيم الحجب المانعة لوضوح الرؤية لتتحوّل إلى رؤية شعرية تطفح بالجِدَّة والإتيان بكل مختلف.

(3)

إن ما تعرفه الإنسانية من تراجعات وانكسارات على جميع الصعد دليل على أنها وصلت إلى النفق المسدود، بفعل شراهة التبضيع التي توسَم بها الحياة المعاصرة، في ظل عولمة قاهرة وقاتلة لكل أمل في جعل الإنسان محور الوجود، كما أسست له فلسفة الأنوار في أوروبا العقل والقيم. فتغييب الإنسان والتركيز على ما يشبع نزواته البيولوجية كانت نتيجته التشنيع بلا جدوى القيم، وأن الديمقراطية ما هي إلا لعبة ماكرة في حق الإنسان، وكذلك الحرية والحق في التعبير والانتصار للإنسان في كل مكان كلها أباطيل أتت بها نضالات إنسان القرون الماضية. وعليه فعولمة التسليع لا تنظر إلى الوجود إلا كسلعة وليس كمضمار لاحترام الحق في الوجود، فالفكر الغابوي ومنطق القوة بتجلياتها العسكرية والاقتصادية، هما الخطابان المتسيّدان في هذه اللحظة التاريخية. كل هذا يجعلنا نؤمن بضرورة الشعر كمصل وقائي حتى لا تنجرف البشرية نحو توحّشية جديدة باسم العولمة البربرية. فالعولمة البربرية هاجسها الأول والأخير الهيمنة والتسلط وخلق القلاقل والنزاعات في العالم، حتى تستطيع القبض على مفاتيح التحكم، وكما أسلفنا نجم عنها وضع كل الجماليات المؤسَّسة من عقل الأنوار في ثلاجة حفظ الأموات، فموت القيم والأخلاق والإنسانية دليل أزمة المنظومة العولماتية ومنها الرأسمالية الهجينة. وعليه فالشعر اليوم وإن بدا لنا صوته مبحوحا ومخنوقا ما زال له الدور المهم والوجودي في حماية الإنسان والعالم من هذا التصحر الذي أصاب حضارة الوسائط الرقمية.

(4)

يظل الشعر المنقذ من ضلال البشرية، فَبِهِ نكون أكثر مناعة من التفاهة التي غدت واضحة الملامح والمعالم في حياتنا وممارساتنا ومؤسساتنا، وهو الذي سيعيد البشرية إلى السكة السليمة من كل الكبوات التي تطارد وجود الموجود، وأيضا به نقف في وجه الفكر الظلامي، الذي غزا الحضارة الإنسانية بشكل مريب ومربك للمشاعر والأحاسيس والعقل . وحينما أتحدث عن الفكر الظلامي / الإرهابي فأقصد به كل فكر متطرف يرفض التمتّع بجمال الكون والترحال في المسالك المعتمة منه . وهو غير محصور في ديانة واحدة بل نجده في كل الديانات دون تمييز . وبالتالي فما على شعراء العالم إلا خوض الحرب باستراتيجيات في الكتابة الشعرية تنتصر لكل ماهو جميل وجليل، وتفضح بلغة الإبداع كل من يسعى إلى تقويض أركان الحب والسلم ويؤيد الكراهية والحرب، إننا اليوم، في أمس الحاجة، إلى شعر ينبثق من عمق الشعور بالكارثة والخراب والموت لتولد الحياة من جديد كالعنقاء مبشرا بشمس مشرقة بالبهاء الوجودي .

(5)

الشعر هذا الكائن الخرافي الذي لا يمكن أن يستكْنِه كوامنه وبواطنه أحد لسبب بسيط كونه صعب القبض، وزئبقي المعنى والدلالة وهذا ما جعله فاتنا، غاويا، مدهشا، مربكا، عميقا في كينونته التي ينقب عنها كل من هو مفرط في الإقامة في جحيم الأسئلة الحارقة، إنه ببساطة لا يحمل في طياته تعريفا محددا إنه الشعر وكفى. ولو أيقنت لما وقفت هذه الوقفة التي تعريني في علاقتي بالشعر، لأنه ضلالة وما بعدها ضلالة غير أنها ضلالة تحتفي بالوجود والكائن، وتعانق الأبهى الأجمل في الإنسان والكون، ولعل حيرة الشعراء إزاء ما يعتريهم من رجفة وخوف أثناء حديثهم عن الشعر؛ خير برهان على أحقية الشعر في الحياة التي يسعى الشاعر إلى القبض عليها، ومن ثم يحاول أن يجسد عشقه وولهه بهذا الذي أغوى كل من عنده ذرة إحساس مفعم بالرعشة الوجودية التي تهز كينونة الإنسان في علاقته باللغة. هذه اللغة الغاوية المنطلقة نحو ارتياد آفاق وجودية رحبة في الخيال كعصب أساس في بنيتها، فبه تكون طافحة باللامعقول واللاحسّي، بجنون العقل وجنوحه نحو اقتناص اللحظة الشعرية بما لها من فورة باطنية تكشف المتواري في اللاوعي، وتجعل الذات في أجلى بوحها. هذه اللغة مِسْك الشعر حيث تمنحه نكهة خاصة، وتفضي به إلى معانقة الأسمى والأنقى بدلالته الفلسفية والوجودية. الشعر بقول كهذا توهج داخلي يضيء عتمات الكينونة، يرجُّ الذات رجّاً عرفانيا، به تنفصل الروح عن الجسد في تَمَاهٍ لاإرادي مع المنفلت والغامض. إنه سفر وترحال ولا إقامة في عوالم الواقع، بل هو عزف عن كل ما يمت بصلة لما هو محسوس وملموس هو المجرد بعينه، النابض بدم الآلهة وفيضها. الشعر إيقاعات لا لحنية إنه عزف وجودي يستعيض الموت بالحياة، لكونه منبعا لا ينضب معينه، وماء كلما رشفته ازددت عطشا إنه السراب البهي الجميل الذي يغري بالمطاردة والملاحقة، لأنه يوهم الشاعر بأنه قريب المأخذ، بل هو أبعد من عمق البئر وغوصها، كلما دنوت منه ازداد بعدا وانفلاتا .الشعر هو هذا الفيض اللانهائي والأبدي للروح في تعالقها مع الوجود والكائن، هذا التماهي مع التجربة في الحياة للكشف عن اللاأبدي في الكائن والوجود، عن الضوء المشع في الأعماق، النابض بشعلة الاحتراق بغية إضاءة كل ما هو معتم ومظلم في الأقاصي. إن الشعر حوار سري تقيمه الذات مع الدواخل والكون لذا تكون التجربة ذات سمات توترية انفعالية على اعتبار الشعر منبته ومحتده المشاعر والعواطف ومن تم يخلق نشيده السري المعزوف على أوتار القلق والسؤال، السابح في ملكوت الخلود بحثا عن الغامض والملتبس في الوجود.

(6)

الشعر النبع هو الشعر الذي يتجدّد كما تجدد المجاري مياهها في كل لحظة، كذلك الشأن بالنسبة للشاعر المجدد الذي يسعى دائما إلى تجاوز ما هو كائن والحلم بما هو ممكن لخلق النص المشبع بأنفاس الروح والمستشرف لأفق شعري جمالي قيمته في القدرة على اجتراح سبل في الكتابة الشعرية المتجددة. الشعر المستنقع هو الشعر الذي يكرر نفسه في عملية الاجترار والركون إلى المنجز الثابت، ولا يستطيع أن يخرج عن جلباب الأجداد، ومن تم يغدو النص الشعري نتنا يفوح بروائح الأسلاف، ميتا كجثة هامدة لا روح فيها ولا حياة. فالشاعر الذي ينتمي إلى هذا الصنف المستنقعي، إذا صحت العبارة، شاعر خارج صوته الداخلي، وسياق لحظته الشعرية المعبرة عن الزمن الآخر وليس زمنه الذي يعيش فيه ويعيشه، إنه نص جامد في شكله ودلالته .

(7)

إن العودة إلى الشعر ضرورة وجوده، فبدونه لا يمكن للحياة أن تستعيد عافيتها جرّاء ما تشهده الإنسانية من بؤس وجودي، وتفاهة قاتلة لكل شعور وجداني يسمو بالإنسان، بقدر ما يجعله في مصاف التوحش. ولعل سمة العدمية السائدة اليوم ناجمة عن غيـــــاب المعنى، فاللامعنى دليل على أن البشرية في أزمة قيم خانقة، لا يمكن أن تخرج منها إلا عبْر الشعر الذي بقى الملاذ الوحيد للإنسان.

٭ شاعر من المغرب