تدليك العواطف..

تانغو عربي!

الكاتب الأردني خيري منصور

خيري منصور(عمان)

كدت أن أغير هذا العنوان كي لا ينصرف الذهن الى فيلم «التانغو الأخير في باريس» لمارلون براندو، لأن ما يسميه د . مصطفى حجازي سايكولوجيا الإنسان المقهور والمهدور أيضا، يتحكم في أية عبارة قابلة للتأويل الحسي، وهذا بالفعل ما جربه ميدانيا الناقد منير العكش في كتابه «أسئلة الشعر»، حين وجد أن استجابات القراء العرب في مرحلة ما لما يقرأون غالبا ما تكون عضوية أكثر منها ذهنية .

والتانغو العربي له عدة تجليات، منها السياسي والثقافي والسايكولوجي، فهو المرادف الدقيق للمونولوج مقابل الديالوج، أي التداعيات مقابل الحوار، فالاخر المخاطب غالبا ما يكون مُتخيلا، بدءا من مناجاة الشاعر الجاهلي في المقدمات الطللية للقصائد، فهو حين يقول صاحبيّ او خليليّ ، يبتكرهما من خياله ، وبذلك يكونان مجرد ضمائر، وحين تحولت هذه المخاطبة الافتراضية الى تقليد وجدت في مراحل لاحقة من يسخر منها، كما فعل أبو نؤاس حين سأل الواقف أمام الطلل ما ضرّه لو كان جلس !

التجلي السياسي للتانغو العربي يتلخص في الحكم الفردي الاستبدادي، وقد يكون للحاكم عدد من المستشارين ، لكن في حدود ما هو بروتوكولي او وظيفي او استكمال نصاب، لأنه لا يستشير غير نفسه، ويتناسى أن النفس أمّارة بالسوء، لأن لديه وهما راسخا بأنه معصوم ولا يخطىء .

ورغم أن الحاكم الفرد المستبد يخاطب شعبه كما لو كان من مُقتنياته او عشيقاته، إلا أنه يرقص بمفرده ، وقد يتمايل ظله إلى جواره او من ورائه، لأنه في الحقيقة لا يصغي لأية موسيقى غير موسيقاه النرجسية ، وبالتالي يضبط خطوات رقصته المنفردة عليها. وحين نراجع دراما الانقلابات وثورات التصحيح والانشقاقات في العالم العربي خلال عدة عقود، نجد أن الثورة او الانقلاب الذي يبدأ بعدد لا يقل عن عشرة رجال، ينتهي بالضرورة إلى رجل واحد، لأنه لا يتقن رقصة التانغو إلا مع ظله، ولو استطاع أن يعانق ذاته لعانقها، ولو استطاع أيضا تقبيل ذاته لفعل .

الحاكم المستبد يستسلم باسترخاء وانتشاء لتداعياته او مونولوجه الخاص، حتى لو كان مجرد هذيان او أحلام يقظة، ثم يصدق خياله بحيث يشتهي لو يسمع صدى تصفيق الشجر والحجارة والبهائم لما يقول .

وهو يذكرنا بإقطاعي من القرن التاسع عشر كان يسطو على القليل الذي يملكه الفقراء من حوله، وحين تجاسر أحدهم وسأله عن السبب أجاب على الفور أنه يفعل ذلك مع نفسه أيضا لأنه عادل، ثم مدّ يده إلى جيبه الأيمن وأخرج منه نقودا وضعها في جيبه الأيسر !

وإذا كان الديالوج هو من صميم ثقافة الديمقراطية والاعتراف بحق الاختلاف بل الدفاع عن هذا الحق، حسب تعبير فولتير الشهير، فإن المونولوج عكس ذلك تماما، لأن المستبد لا يلذ له سماع صوت كصدى صوته، ولهذا السبب غالبا ما تحتشد حوله الببغاوات التي ليس لديها ما تقوله غير ما سمعته وحاولت محاكاته .

أما التجلي الثقافي لرقصة التانغو على الطريقة العربية السائدة، فهو وهم احتكار الحقيقة ، والادعاء بأنه أول من غنى او كتب او تألم. والمونولوج ثقافيا هو استرسال بلا أية مصدات من الوعي في البوح والارتهان لما يسمى في علم النفس التفكير الرغائبي او wishfull thinking ، لهذا اهتدت سلالة تنابلة السلطان من أقدم العصور إلى حيلة تضمن لها ديمومة العلف، وهي تدريب الأنف على أن يشم عن بعد رغائب السلطان ، وإسماعه ما يطربه ويروق له ، لأن من يشذون عن هذه القاعدة تكون مصائرهم في مهب زفير السيد وزبده، وهي عاصفة بالضرورة ولها قدرة على الاقتلاع والنفي. ولم تكن مجرد مصادفة أن أشباه المثقفين كانوا على الدوام هم الرقباء على الإبداع، ولهم مهارة الكلاب السلوقية في اصطياد الكلمات القابلة للتأويل والوشاية، فهم أدرى من غيرهم بشعاب الدسائس والمصائد والكمائن، وليس بشعاب الثقافة ذاتها .

وحين سئل أحد هؤلاء ذات يوم عن سبب احترافه الوشاية والتزلف وتدليك العواطف، أجاب بأنه قرأ كثيرا بلا طائل، وكتب كثيرا بلا اعتراف، لهذا لا يريد أن يعود الى أول السطر بخفيّ حنين، لكن ما حدث بعد ذلك أنه عاد حافيا وبلا خفين، لكن عودته لم تكن إلى الذات بل إلى المهنة السلوقية والأنف المدرب على شم رائحة الحرية وهي ترشح من الكلمات !

اما جذر هذه الرقصة مع الظل في غياب الآخر، فهو تربوي بامتياز، ولو شئنا تقديم أمثلة من أقوال مأثورة ومواعظ تحذر من الآخر باعتباره عدوا إلى أن تثبت براءته وليس صداقته، لما انتهينا . والآخر في هذه الثقافة غريم دائما وحسود، وقد يصبح الآخرون جميعا عزّالا يأكل قلوبهم الحقد، كما تقول مئات الأغاني .

التانغو العربي يشترط لاستكمال الرقصة الإصابة بالشيزوفرينيا ، بحيث ينشطر الفرد إلى اثنين ، مختلفين في كل شيء، لكنهما يقيمان في جسد واحد !لهذا ul thinking يا هو استرسال بلا اي مصدات من الوعي في البوح والارتهان لما يسمى في علم النفس التفكير الرغائبي أو ي ليس لديها م

٭ كاتب أردني