المال أكثر كفاءة من أكياس الطعام..

شبح المجاعة في الصومال

مجاعة جديدة بسبب الجفاف

وكالات
وكالات الإغاثة تحولت من توزيع غذاء إلى توزيع أموال نقدية ببطاقات بنكية أو هواتف محمولة، ونهب المساعدات الغذائية يعتبر تجارة رابحة للمسلحين.

 في ذروة المجاعة التي اجتاحت الصومال في عام 2011 اضطرت مادو محمد إلى ترك طفلها عبدالرحمن المقعد البالغ من العمر خمسة أعوام على جانب الطريق لتصحب أطفالها الثمانية الباقين الذين يتضورون جوعا للحصول على مساعدة.

وعندما عادت للبحث عنه لم تجد سوى قبر، حيث كان عبدالرحمن ضمن 260 ألف صومالي قضوا نحبهم بسبب المجاعة.

وتقول الأم التي مسحت دموعها بعدما استعادت ذكرى ما حدث قبل سبعة أعوام، “لا يمكن أن تنسى أنك تركت طفلك ليموت، إنه جحيم لا ينتهي”.

هذه المرة الجفاف أشد، إذ لم تهطل الأمطار لثلاثة مواسم وليس لموسمين، إلا أنه لم يمت أي طفل آخر من أطفال مادو، وعدد الوفيات الإجمالي رغم أنه غير معلوم ظل أقل بكثير.

ووثقت الأمم المتحدة أكثر من ألف حالة وفاة ومعظمها نتجت عن شرب مياه غير نظيفة، حيث تعجز الحكومة عن تأمين ذلك، ويعاني النازحون بصفة خاصة جراء الحروب من مشكلة مضاعفة تتمثل في الحصول على مياه صالحة للشرب.

يذكر أن الصوماليين يعتمدون على الشرب من نهرين هما شبيلي وجوبا ويعبران ستة من الأقاليم الجنوبية؛ شبيلي السفلى والوسطى وهيران وجوبا السفلى والوسطى وجدو، وهي من الأقاليم التي يطلق عليها القلب النابض في البلاد لاحتوائها على أكبر مساحة زراعية في البلاد.

من الغذاء إلى النقد

التدخل الأسرع لوكالات الإغاثة والعرقلة الأقل من المتشددين الذين صاروا أضعف والحكومة الصومالية الأقوى والانتشار الأكبر لعمال الإغاثة كانت كلها عوامل شديدة الأهمية. وهناك سبب آخر هو أن وكالات الإغاثة تحولت من توزيع غذاء إلى توزيع أموال نقدية، وهي صيغة أقل تبديدا للمساعدات التي يقدمها مانحون مثل كندا وأوروبا وأستراليا بالرغم  من أن الولايات المتحدة ما زالت مساعداتها مقصورة على الغذاء.

وسيناقش الكونغرس الأميركي تحركا نحو المساعدات القائمة على النقد في العام الحالي عندما يصوت أعضاء الكونغرس على قانون الزراعة الجديد.

كريستوفر باريت خبير المساعدات الغذائية في جامعة كورنيل من العديد من المفكرين والسياسيين ووكالات الإغاثة المطالبين بالإصلاح.

وقال للكونغرس في نوفمبر “نضحي بأرواح 40 ألف طفل سنويا بسبب سياسات المساعدات الغذائية العتيقة”.

في عام 2011 وزع عدد قليل من المانحين أموالا نقدية في الصومال، لكن برنامج الأغذية العالمي وزع طعاما فقط.

وكثيرا ما تتعرض المساعدات الغذائية للنهب عادة من المسلحين أو القراصنة، حيث يعمد هؤلاء إلى تخويف الناس وطردهم، ثم تأتي شاحنات تحمل المساعدات، وينتهي المطاف بالمواد الغذائية في الأسواق، حتى أصبح نهب المساعدات المخصصة للنازحين تجارة كبرى.

المساعدات الغذائية معرضة أيضا للفساد تحت الأغطية مع توقف الشاحنات عند حواجز الطرقات الأمنية وعمليات التفتيش.

وكان يتعين على الأسر الجائعة أن تقطع أياما عبر الصحراء للوصول إلى نقاط التوزيع، حتى أصبح مسارها مكدسا بجثث الأطفال وهو ما جعل الناس يطلقون عليه “طريق الموت”. والآن تُقدم أكثر من 70 في المئة من مساعدات برنامج الأغذية العالمي على هيئة أموال نقدية توزع معظمها عبر الهواتف المحمولة.

كما توزع أكثر من 50 منظمة إغاثة أخرى أموالا، وكل شهر تحصل مادو محمد على 65 دولارا من منظمة كوبي الإيطالية للإغاثة تنفقها على احتياجاتها مثل الحليب والدواء والغذاء ورسوم المدارس.

تجاوب المنظمات

للأموال النقدية الكثير من المزايا مقارنة بالمساعدات الغذائية إذا كانت الأسواق تعمل، حيث يسهل إخفاؤها بيسر ومن ثمة تقل احتمالات سرقتها، كما أنها قابلة للنقل بحيث يمكن للأسر أن تنتقل بحثا عن مكان أكثر أمانا أو تختار البقاء حيث تعيش.

وتساهم المساعدات النقدية في تنشيط حركة البيع والشراء والتي تساهم بدورها في بعض الاستقرار الاقتصادي.

ويقول برنامج الأغذية العالمي إنه وزع 134 مليون دولار مباشرة على الأسر الصومالية للإنفاق في المتاجر المحلية في العام الماضي.

وقال لوران بوكيرا رئيس برنامج الأغذية العالمي في الصومال “نحن بشكل أساسي منحنا الثقة للسوق كي يبقى نشطا”.

والمال أكثر كفاءة من أكياس الطعام، يقول كالوم مكلين خبير النقد في إدارة الإغاثة الإنسانية بالاتحاد الأوروبي “إن المساعدات النقدية في الصومال تعني أن 80 سنتا من كل دولار تذهب مباشرة إلى الأسرة بدلا من 60 سنتا من المساعدات الغذائية”.

وربما كان يمكن أن ينقذ النقد حياة الصغير عبدالرحمن، تقول أمه بحزن “كان من الممكن أن أبقى في قريتي لو كان لدي مال.. كان هناك بعض الطعام في الأسواق، صحيح أنه كان باهظ الثمن، لكن إن كنت تملك مالا كان يمكنك هناك شراء الطعام إن كان متوفرا”.

 وتختبر منظمات الإغاثة المساعدات النقدية منذ عقدين، حيث يؤكد مكلين أن الفكرة تلقى رواجا منذ خمسة أعوام حيث دفعت الحرب الأهلية السورية الملايين من اللاجئين إلى دول بها أنظمة مصرفية راسخة.

وبفضل تجاوب المانحين الدوليين ارتفعت نسبة المساعدات المالية المقدمة، فبعدما كانت خمسة في المئة فقط من ميزانية المساعدات الإنسانية بالاتحاد الأوروبي قبل ستة أعوام في شكل دفعات نقدية فإن النسبة صارت اليوم تفوق الثلث.

ويتمثل الجزء الأكبر من التكاليف الأولية للمساعدات النقدية في إنشاء قاعدة البيانات ونظام التوزيع.

يقول مكلين إن إضافة المزيد من متلقي المساعدات النقدية بعد ذلك يعد إجراء سهلا وبسيطا، كما يمكن تعديل المبالغ بسهولة وفقا لمستوى الحاجة أو التمويل، مضيفا “يصبح توزيع النقود أقل تكلفة من توزيع الطعام كلما اتسع نطاقه”.

ويجري توصيل معظم مساعدات الغذاء الأميركية والدولية عبر مكتب الغذاء مقابل السلام التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية والذي بلغت ميزانيته العام الماضي 3.6 مليار دولار.

وحصل المكتب على نحو نصف هذا المبلغ من مخصصات قانون أميركي للزراعة يقضي بضرورة شراء معظم الغذاء من مزارعين أميركيين.

ويلزم قانون أميركي للشحن نقل نصف هذا الغذاء على متن سفن ترفع علم الولايات المتحدة.

ورغم هذه القيود، زاد مكتب الغذاء مقابل السلام نسبة برامج النقود والقسائم المالية من الميزانية إلى 20 في المئة العام الماضي بعدما كانت 3 في المئة فقط عام 2011.

يقول كريستوفر باريت، إن البحث عن مصادر للمساعدات الغذائية في الولايات المتحدة باهظ الثمن، مضيفا أن الآراء التي تقول إن المساعدات الغذائية تدعم المزارعين والبحارة الأميركيين خاطئة إلى حد بعيد.

كان باريت قد أشرف على دراسة خلصت إلى أن شراء الحبوب بالقرب من منطقة طوارئ يوفر نصف السعر. كما أن المساعدات تصل أسرع بفارق 14 أسبوعا.

 طرق توزيع المال

 تستخدم منظمات الإغاثة أنظمة مختلفة لتوزيع النقود لكن معظمها تجري تقييما للأسر ثم تسجلها في قاعدة بيانات بيومترية تكون عادة باستخدام بصمات الأصابع، ويتم توزيع النقود باستخدام بطاقات بنكية أو هواتف محمولة أو في شكل قسيمة مالية.

ولا تفرض بعض الجمعيات الخيرية أي قيود على النقود، لكن منظمات أخرى كبرنامج الأغذية العالمي تقصر صرف هذه الأموال على متاجر بعينها ومع باعة مسجلين.

وفي بلدة دولو على الحدود مع إثيوبيا حيث تعيش مادو مع من تبقى من أبنائها، تقول الأسر إن النقود غيرت شكل حياتها.

وتتذكر جاكالو أدن هاشي، وهي أم شابة يعني اسمها “المحبوبة”، السير بخطى متثاقلة بجوار جثتي طفلين في عام 2011، بينما كانت في طريقها لطلب المساعدة.

تقول هاشي إنه كان هناك طفل ثالث يحتضر وإن أسرتها الضعيفة اضطرت إلى المضي في طريقها.

وتضيف أنها عندما وصلت إلى المخيم كان هناك رجال يسرقون المساعدات الغذائية حتى يمنحوها لأسرهم.

وتقول “كان الناس يتبادلون اللكمات في الطابور مع كل توزيع للغذاء، أحيانا تكون جالسا وينتزع بعض الشبان الأقوياء طعامك انتزاعا منك”. وتابعت أنه لا يمكن لأحد الآن سرقة أموالها.

وتتبع منظمة كوبي الإيطالية للإغاثة نظاما يتطلب إدخال رقم معين لصرف المال.

وتنفق مادو معظم نقودها على الغذاء، لكنها ادخرت هي ومجموعة أخرى من النساء ما يكفي من المال لفتح كشك صغير، تقول “ربما تنتهي النقود لكن هذا العمل لن ينتهي”.

النقود لا تصلح لكل مكان، ففي جنوب السودان حيث أصابت المجاعة مقاطعتين لبعض الوقت العام الماضي، أغلقت الحرب الأهلية الأسواق مما اضطر منظمات الإغاثة إلى توصيل الغذاء في طائرات وشاحنات.

وتحويل نقود إلى مناطق منكوبة بالزلازل يؤدي إلى رفع الأسعار، يقول خبراء إن التحويلات النقدية في حالات الجفاف تكون مثالية حيث تنهار الأسر، لكن البنية الأساسية تبقى سليمة.

وتبقى هناك بعض المشكلات، ففي الكثير من الأحيان لا يوجد تنسيق كبير بين المانحين. وعلى سبيل المثال يقول مكلين إن هناك سبع قواعد بيانات منفصلة في الصومال ويمكن للإعانات الشهرية أن تتفاوت بفارق كبير. وفي أوغندا تحقق السلطات في تقارير غش بعدما استخدمت الحكومة نظامها للتسجيل البيومتري للاجئين.

وفي حالة عدم توفر المياه النظيفة أو الخدمات الصحية، فإنه لا يمكن للاجئين إنفاق المال على شراء الماء أو الدواء.

لكن تقريرا لجهاز أبحاث الكونغرس عام 2016 خلص إلى أن معظم الباحثين يتفقون على أن التحول إلى المزيد من المساعدات النقدية سينقذ المزيد من الأرواح.