برنامج حوافز يزيد أعباء الموازنة من أجل دعم الاستثمار..

تركيا تبحث عن بداية اقتصادية جديدة ولو بثمن باهظ

إدارة الظهر للحقائق الاقتصادية يهدد بانهيار الاقتصاد التركي

وكالات

تسابق الحكومة التركية الزمن بحثا عن بداية جديدة مهما كان الثمن. وهي تحشد جهودها للإعلان عن برنامج حوافز جديد يزيد أعباء الموازنة من أجل دعم الاستثمار والاستهلاك.

لكن انحدار الليرة بنسبة 7 بالمئة مقابل الدولار خلال الشهرين الماضيين وارتفاع عوائد السندات لمستويات قياسية عند 14 بالمئة وهي تكلفة اقتراض باهظة، يشكّلان عقبتين كبيرتين أمام الحفاظ على معنويات المستهلكين والشركات.

وفي ظل تضخم بأسعار المستهلكين عند نحو 12 بالمئة، تتسلل مخاوف وتوقع ارتفاع عجز ميزان المعاملات الجارية إلى 5.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام وارتفاع عجز الموازنة صوب مستوى 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، مؤشرات تثير المخاوف.

يوما بعد يوم تصدر المزيد من بيانات الاقتصاد الكلّي التركي فتعكس تفاقم الصعوبات في أنحاء البلاد، وآخرها تراجع ثقة المستهلكين، وهي ترجح توقعات أسوأ للبطالة خلال الأشهر المقبلة ومعدلات الأجور وتراجع إقبال المستهلكين على السلع المعمرة.

وتبدو تركيا مثالا جليّا لمفهوم النشاط الاقتصادي المفرط، الذي لم يحدثه سوى الحكومة نفسها. ففي ظل غض الطرف عن الحقائق الاقتصادية والانكفاء على صورة مخادعة، يبدو كبار مستشاري الرئيس رجب طيب أردوغان شديدي الخوف في أسلوب تأويلهم لتلك الحقائق.

ويشير جميل ارتيم، مبير مستشاري أردوغان إلى أن “القوى المهيمنة” تحاول وقف صعود “تركيا الجديدة” وأن حزب العدالة والتنمية الحاكم سيستمر في فعل ما يتناقض تماما مع توصيات صندوق النقد الدولي ووكالة موديز بمعالجة التضخم والعجز في ميزان المعاملات الجارية.

لذلك تبدو فرص صدور استجابة رشيدة لمواجهة النار المشتعلة في الاقتصاد التركي معدومة. وتكمن المشكلة في عدم تحرّك الحكومة لمعالجة الخلل الاقتصادي، فالنموّ الاقتصادي يحتلّ صدارة أولوياتها للفوز في انتخابات العام المقبل.

وينبغي هنا إلقاء نظرة على تدفّق الأموال الأجنبية إلى تركيا. فبيانات البنك المركزي تؤكد أن المستثمرين الأجانب سحبوا أول أسبوعين من مارس نحو 223 مليون دولار في سوق الأسهم ونحو 477 مليون دولار من سوق السندات. وخلال 52 أسبوعا الماضية تراجعت التدفقات إلى سوق الأسهم إلى 1.8 مليار دولار من مليارين، بينما انخفضت التدفقات إلى سوق السندات من 8.6 مليار دولار إلى 7.8 مليار.

وليس صعبا استشفاف الحقائق وأوجه الخلل في الاقتصاد التركي بينما تشهد الساحة الدولية تغيّرا سريعا بدعم من توقّعات رفع أسعار الفائدة الأميركية بنحو 4 مرات خلال 2018، وهو ما يرجّح استمرار التقلبات في أسواق السندات والعملات بسبب التدفق المتوقع للأموال على سوق السندات الأميركية التي تشهد ارتفاعا في العائد.

وتزداد الصورة قتامة مع تصاعد الحرب التجارية المعلنة من الرئيس دونالد ترامب ضد الصين والكثير من الاقتصادات الصناعية عبر فرض رسوم جمركية، ما يقوّض المعنويات تجاه الأسواق الناشئة لفترة طويلة.

سياسات أردوغان تصر على خفض الفائدة مما يضاعف أعباء العجز ويهدد الاقتصاد التركي

وفرة السيولة العالمية قد تجعل مهمّة حكومات الأسواق الناشئة أسهل، لكن تركيا من المتوقّع أن تتحمل عبئا متزايدا في ظل نهجها الاستثنائي غير المتعقل تجاه إدارة الاقتصاد الكلي، رغم وجود مخرج صريح من منحدر الأحداث السلبية.

وتبدو تركيا بحاجة ماسة إلى تطبيع الأوضاع في الداخل على كافة المستويات بدلا من الخطاب السياسي الذي يغذي الانقسام والتراجع عن السياسة الاقتصادية التي تحفز النموّ على حساب تفاقم أوجه الضعف.

ويبدأ البحث عن الحلول بالتسليم بحقيقتين أساسيتين. فالوتيرة الحالية للنموّ الاقتصادي ترجح تسجل عجز كبير في الموازنة وميزان المعاملات الجارية يواصل الاتساع أكثر الأعوام المقبلة. ويُترجم ذلك العجز المزدوج إلى اتساع العجز في المدخرات على جميع المستويات، الذي كان يموّل بالتدفقات الأجنبية التي تتجه للتلاشي.

وقد يستمر هذا المزيج الخطير لبعض الوقت مع استمرار توافر السيولة في الأسواق المالية العالمية. لكن عند نقطة ما، عاجلا وليس آجلا، سيكون معدل الادخار التركي بحاجة للزيادة وإلا ستنحدر الليرة أكثر.

ويتعيّن أن تأتي زيادة الادخار اللازمة من القطاعين الخاص والعام سويا. وبالنظر إلى أوضاع الاقتصاد العالمي، فإن ذلك لن يأتي إلا من خلال رفع أسعار الفائدة وليس العكس من أجل جذب الأموال ومكافحة التضخم.

الحل ينبغي أن يشمل زيادة أسعار الفائدة. كما ينبغي على تركيا، التي تعتمد على التدفقات الأجنبية للحفاظ على اقتصادها من الانهيار، البدء في إعادة ترتيب إدارتها للاقتصاد الكلّي بشكل واقعي لمنع سلسلة من الأحداث تبدأ بانحدار متسارع في قيمة الليرة وارتفاع التضخم وتباطؤ النمو. ينبغي اتخاذ كعلاج عاجل بدل انتظار قوى السوق.

يجب أن تكون نقطة البداية لانتشال الاقتصاد إلى بر الأمان، هي استهداف إبطاء وتيرة النمو في الأجل القصير إلى المتوسط من أجل إعادة التوازن. وينبغي على الحكومة استشراف الحقائق بكافة جوانبها الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى إعادة سيادة القانون التي هدمتها سياسات حكومة أردوغان.

من الحقائق الماثلة أن إدارة حزب العدالة والتنمية نفسها كانت قد أظهرت خلال الفترة بين عامي 2002 و2006 القدرة والرغبة اللازمتين لدفع عجلة الاقتصاد في الاتجاه الصحيح على نحو رشيد نسبيا.

لكنها من المستبعد أن تتصرّف كما قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ويبدو أن كل ما يتمنّاه الأتراك الآن هو انتظار أن تمرّ موجة المتغيّرات العالمية بأقل قدر من الخسائر.