مجموعة قصص صادقة تنبض بالحياة..

مكتبة الموتى لكسر الحواجز

الروائي العراقي محمود سعيد

محمود سعيد (بغداد)

«اختفى القناص خلف أحد السواتر الحجرية، هرب الناس جميعاً، ثم رأى امرأة ملتفحة بالسواد، تجر ولديها الصغيرين، ذاهبة من حي بستان القصر باتجاه المشارقة، في حلب الغربية. وصلت إلى منتصف الطريق، ثم سُمع صوت رصاصة، سقط الصبي على يمين المرأة على الأرض، أطلقت أمه صرخة ارتطمت بحجارة المدينة ، خرت فوق جسد ابنها، ضمته إلى صدرها، وهي تولول وتنوح، بشهقات طويلة. بينما كان القناص يلقم بندقيته رصاصة ثانية، عينه اليمنى مختبئة خلف منظار الموت، ثم دوى صوت الرصاصة الثانية، سقطت البنت على يسار أمها أرضاً، غمر الدم ضفيرتيها السوداوين. أدارت الأم وجهها صوب طفلتها، صرخت لكن صرختها الثانية كانت صامتة، ثم صاحت: الله يخليك اقتلني أنا كمان».


من يقرأ هذه الصورة وعشرات الصور الأخرى كهذه في المجموعة القصصية «مكتبة الموتى» (الدار العربية للعلوم ناشرون)، يعتقد تمام الاعتقاد أن فادي سعد في سوريا لم يغادرها، فالكتاب كله صور صادقة تنبض بالحياة، تعطي القارئ مثل هذا الانطباع، فكيف يتيسر له أن يقدم قصصاً تنبض بالحياة عن الحياة في سوريا، وهو على بعد عشرات آلاف الأميال؟ إنها قوة الخيال الإيجابي، وقوة الصدق الفني.


حدثت بعد احتلال العراق مآسٍ هائلة، كما حدث في سوريا، وربما أشد، فقد قتل في بغداد وحدها سنتي 2006 ـ 2007 أكثر من مليون بريء، وهجر 3.5 ملايين، وأحرق عدد هائل من البشر، لكن لم أقرأ عن مآسي العراقيين كما قرأتُ لفادي سعد عن مأساة شعبه، وسؤال يرن في ذهني أهي قوة الخيال عنده، أم حب وطن يفوق حبنا لوطننا!
الكتاب كما قلت مليء بصور كأن الكاتب يصور بأنامله ما يرى بدقة كما تصور آلة التصوير الوقائع، كما هي، خذ هذا مثلاً، ص 50، حيث يصف طابوراً لشراء خبز في الصباح الباكر، عندما يخترق ثلاثة من رجال المخابرات، الطابور، يقفون في المقدمة، يبدأون بسب الخبازين: «يا أوباش وين الخبز، ما بتعرفوا مين نحنا؟» وينهون سبابهم بتهديد: «رح نهد المخبز على روسكم كلكم».

لم يُسمع من الحاضرين أيّ كلمة، معظم الزبائن مطرقون رؤوسهم، إلا شابا في أول الطابور، يحدق بمشهد الذل بعينين لامعتين غاضبتين، وتحدٍ جريء، استفزت نظراته رجال المخابرات، سبوه، لكنه لم يتغير، ثم بدأ أحدهم بصفعه، ضربه، لكنه ظل يحدق بهم بجرأة، عاود ضربه، بقوة، حتى سقط الشاب على الأرض، وحين تعب رجل المخابرات، نهض الشاب مدمى، لكنه ظل ينظر بتحد إلى رجال المخابرات مبتسماً، جريحاً لكنه لم ينكسر. آنذاك بدأ التململ والهمس الخفيض يسري إلى الطابور، وبدأ بعض الأصوات يعلو، شعر رجال المخابرات بأنهم محاصرون في المخبز الضيق، مع طابورغاضب، ناقم، أحاط بهم من جميع الجهات، عندئذ اقترب شيخ عاجز من الجلاوزة، قال لهم: «ما الذي فعله هذا الشاب لتضربوه بهذه الطريقة، ما هي جريمته؟ ألا تملكون ذرة رحمة في قلوبكم؟» عندئذ شعر الجميع بجرأة لأول مرة، وسقط قناع الخوف وبحركة غير مدروسة، أخذ الجميع يحيطون رجال المخابرات ويضيقون الخناق حولهم، لتتمزق غلالة الخوف الى الأبد. 


اشتركتُ في عدة مظاهرات واحتجاجات في العراق، عندما كنت مراهقاً، وشاباً، كان اليسار هو الذي يعدّ وينظم تلك الفعاليّات، وأتذكر في غير مرّة، أننا كنا نهتف ضد نوري السعيد، والملك، والوصي و«بريطانيا العظمى»، ونصفق، ونغني، ونردد الشعارات، ومن كان ينظر الى تلك المظاهرات يروعه الكم الهائل من المواطنين الذين يتجمعون، حتى ليظن ألّا أحد بقي في بيته ولم يشارك، وألّا أحد يؤيد النظام ويدعمه، لكن ذلك الجمع يتبدد ما إن يبدأ إطلاق النار، ويسقط متظاهر واحد مصابا أو بضعة متظاهرين، وأكبر عدد رأيتهم يصابون في سنة 1956، في مدينة واحدة، كانوا ستة متظاهرين من الطلاب في الموصل، في مظاهرة جرت لتأييد مصر، فبعد إطلاق الرصاص، وسقوط المتظاهرين، خلا الشارع من الناس، فلم نعد نرى من ذلك الجمع العظيم، أحداً، لكني عندما رأيت مظاهرات الشعب السوري، سنة 2011، ورأيت الضحايا في اليوم الأول، قلت مع نفسي، لن يتظاهر أحد في سوريا بعد الآن، لكن الشعب السوري استمر في تحديه، ومظاهراته بالرغم من سقوط قتلى وجرحى يومياً، يوماً ثانياً، وثالثاً ووو، وأصر على خلق معجزة مستحيلة في هذا الزمن. تحد مطلق طيلة سبع سنين، ومازال، لقد خلق الشعب السوري معجزة لا مثيل لها على الأرض، وفي أي شعب آخر في العالم بتحديه، وتضامنه، وإصراره على نيل حقوقه ولم يكن يدور في ذهن أي كان أن هذه الثورة التي علّمت العالم التحدي والصمود ستتمزّق، وأن الدول الكبرى مع دول الجوار ستجد فيها ساحة للعب والمناورات والمزايدات لتنهي حالة كان من الممكن ان تكون رمزاً حقيقياً للحرية بدل تمثال نيويورك، تهتدي بها شعوب العالم أجمع على مر التاريخ.


بعيداً عن التنظيرات والكليشهات والعناوين الجاهزة، كالفن للفن، والفن للشعب، نرى في مجموعة القصص هذه ذوبان المؤلف بشعبه، وقضاياه، ومشاكله، فجميع القصص من دون استثناء، لصيقة بالشعب، تعبر عن أفراده، مضطهَديه، تتماهى بمشاكله وقضاياه ومآسيه، بحيث يحملني على التفكير بأن فادي سعد ركز اهتمامه كاملاً غير منقوص على بلده، شعبه، المآسي التي دومته، ليعبر عن هذا الشعب تمام التعبير.


لم يكن هذا الأمر جديداً، فكثير من الكتاب التصقوا بمآسي شعوبهم ومشاكلها وتطلعاتها، لكن ليس في كل عمل لهم في كتاب واحد، ولعل هذا جديد فادي سعد، وما يخصه وحده دون الآخرين.
عجلة التجديد التي يقودها سعد لم تقف عند قصة واحدة مطلقاً، بل تعدتها الى جميع القصص، ففي كل قصة هناك شيء جديد يبهر القارئ ويلفت انتباهه، شيء لا يتوقعه المرء العاديّ. فعلى سبيل المثال نقرأ في الأخبار ونشاهد في الأفلام وصور المجلات والصحف ملايين السوريين يهربون من القتل العشوائي غير المبرر، القتل الوحشي الذي تربأ الحيوانات عن مباشرته، يهربون وهذا حقهم، لا أحد يلومهم، ويغامرون في الهرب، يحلمون بالعيش في مكان آمن بعيداً عن القتل والهمجية، كل هذا مألوف، لكن من غير المألوف أن يركز سعد على أبطال هربوا ونجحوا ووصلوا إلى مكان آمن، لكنهم أحياء الضمير، وذوو عزم فريد مثله دفعهم حبهم لشعبهم، فآثروا الرجوع ومشاركة شعبهم بالهموم وتحمل الأعباء، والمساهمة بالتغيير فعوقبوا وقتلوا أو سجنوا. استطاع سعد أن يخلق من «ميلاد» بطلاً عظيماً في رجوعه بعد أن وصل إلى مكان آمن، وفضل أن يموت قتيلاً مناضلاً في وطنه، على أن يعيش في دعة وآمان خارج الوطن.


التقط الكاتب النادر في الحياة، والذي يصيبك بالدهشة، فقد احتضن شخصيات لم يحلم بها أحد كشخصية الحرية التي جاءت تحيي أبطاله، وتعانقهم، وشخصية التاريخ الذي منحه الوقت والمجال ليفك غموضه المحير والموحش معاً، في حديثه مع ابن الشارع، واستطاع أن يقنعنا بأن القاتل والقتيل في هذه المعركة ضحايا لنظام همجي وحشي، وأنهم يتساوون بالموت لا بل يحتفلون به. كل ذلك من خلال زنزانات بعرض الوطن وطوله، ومن خلال شخصيات تخدم النظام، كإيليا، المنحاز للنظام، أو من خلال ضحايا النظام بالرغم من أنها لم تقم بما يسيء اليه، حيث يتمزق عيسى، وتنهار حياته انهياراً مأسوياً لا مثيل له، بانهيار عائلته وبالألم الذي جعلنا ننهار رغم بعدنا.
مجموعة القصص هذه 141 صفحة فقط، لكنها سفر كامل يريك المعاناة الحقيقية، والحياة البائسة التي أصر ديكتاتور صغير، ورث تعاليم وسلوك أبيه، ووصاياه، مختزلاً ومطبقاً تجارب كل حثالات التاريخ، عبر وصايا شر فريدة لا تخطر على بال: «حينما تقتلهم تأكــد من عدم وجود كاميرا»، لكن ما غاب عن الأب، أن العلم سيجعل في يد كل من يشب عن الطوق كاميرا، تصور جرائم ابنه ووحشيته، وانها ستعرض جرائم مريديه وأســياده القذرين، وأن كل كاميرا يحطمها زبانيته، تنبت في مكانها عشرات الكاميرات، تكسر حواجز، وتهدم جدراناً، وتنشر صوراً تبث آمالاً حية، وتفتح آفاقاً لا حدود لها لمستقبل زاهر.

٭ روائي عراقي