"ريلكه أو رونيه ماريا سيزار"

الشاعر الذي قتلته زهرة!

ريلكه أو رونيه ماريا سيزار

وكالات

"البهاء لا يدوم سوى لحظة وما رأينا شيئاً أطول من الشقاء"

ريلكه

كتب صديقه رودولف كاسنر: "كان ريلكه شاعراً، كان آسراً حتى وهو لا يفعل غير أن يغسل يديه". وقد أجمع كل من عرفه على كونه أحد أواخر الشعراء المبهرين، الشاعر الذي لم يقم بأقل من ايصال الشعر الألماني إلى غاية كماله كما عبر روبير موسيل.

ولد ريلكه أو رونيه ماريا سيزار، في براغ 4 كانون الأول 1875، وقل من فاقه شعوراً بأنه غير ذي سكن ولا وطن بوصفه نمسوياً ولد في براغ وشاعراً باللغة الألمانية عاش دوماً تقريباً خارج ألمانيا. عانى ريلكه من قسوة والده الذي لم يكن يسلم بأن يكرس أحد نفسه للأدب إلا بجانب عمل آخر، وبين أم متقلبة عاطفية خشي والده من تأثيرها عليه فأرسله إلى مدرسة عسكرية في الحادية عشرة من عمره بقي فيها خمس سنوات كانت تجربة قاسية على ريلكه.

 

"من ذا قَلَبَنَا بهذه الصورة، بحيث

أضحينا في كل أعمالنا في وضع

شخص يذهب؟ وكما فوق

الرابية الأخيرة التي تُريه مرة ثانية

واديه كله، يلتفت ويبطئ

كذلك نعيش، عند كل خطوة نستأذن للرحيل"

 

لم يكن ريلكه عبقرية مبكرة لكنه شاب حساس يكتب عن ملكة طبيعية ولمعارضة ما كان جرحه: تفه الوسط الاجتماعي، تصلب أبيه، خفة أمه وشططها التديني، قسوة المدرسة العسكرية، ثم أيضاً كل الشقاء الانساني الذي حزره من بعيد (إنه العهد الذي راح يوزع فيه قصائد في الشوارع...... إنك تقدّم أعمالك في طبعة رخيصة: إنك بذلك تيسر شراءها على الأثرياء، إنك لا تساعد الفقراء. بالنسبة إلى الفقراء كل شيء مكلف... ) إنه الفتى الذي يتنزه في براغ وفي يده سوسنة لأنه في السن الرعناء حين يتخذ الرفض طوعاً الصيغ الأكثر تظاهراً، الأشد جذباً للأنظار. إنه مخلوق مكلوم غير مهيئ جيداً في الحق لمواجهة الحياة. لكنه يملك ذلك السلاح الذي قابل به في باكورة نصوصه السيف وهو القلم.

"كيف تمكن الحياة إذا كانت عناصر هذه الحياة غير مدركة مطلقاً منا؟ حين نكون دائماً مقصرين في الحب، مترددين في العزم، عاجزين أمام الموت، كيف يستطاع العيش؟"...

كان في الثانية والعشرين من عمره عندما التقى بلو سالوميه وكانت في السابعة والثلاثين. ولو سالوميه، هي ابنة جنرال روسي منحدر من أسره بروتستانتية فتنت منذ صباها بذكائها وبجمالها وبحرية ونشاط فكرها. أحبها بشغف وبلا جدوى نيتشه الذي قابلته في روما عام 1882، ثم تزوجت المستشرق اندرياس كما أصبحت أخيراً صديقة ومعاونة فرويد. كان نيتشه يقول: "لم أقابل قط مخلوقة أكثر منها موهبة وروية. لقبها النازيون بـ "ساحرة هاينبرغ" توفيت عام 1937.

كان ريلكه يستسرها جوهر نفسه أكثر من أي أحد غيرها وبقيت حتى وفاته الانسانة المغيثة والصديقة الام التي كان يرجع إليها دوماً في اللحظات العصيبة. يقول في إحدى رسائله إليها:

ودعاً يا عزيزتي لو. يعلم الله أن شخصك كان الباب الحقيقي التي وصلت من خلاله للمرة الأولى إلى الهواء الطلق.

***

في كتابه "عالم الأمس" يتحدث ستيفان زفايغ طويلاً عن ريلكه كإنسان يعيش الشعر قبل أن يكتبه، يقول:

ومن بين هؤلاء الشعراء جميعاً، لم تكن حياة أحد منهم أنعم، وأكثر استخفاء من حياة ريلكه. ولكن وحدته لم تكن متعمدة، ولا وحدة كاهن مرغم عليها، أو متظاهر بها، مثل وحدة ستيفان جورج المشهور في ألمانيا. لقد بدا أن الصمت ينمو حوله حيثما ذهب، وحيثما كان. وبما أنه كان يتجنب الضجيج، ويتجنب حتى شهرته - ذلك "الكم من سوء الفهم الذي يتجمع حول الاسم"، كما قال ذات مرة- فإن الموجة المقتربة للفضول المتبطل لم تلامس شخصه قط، بل اسمه فقط.

لم يكن له منزل ولا عنوان يمكن أن يجد المرء فيه، ولا مسكن، ولا مكتب، ولا محل إقامة ثابتة. كان دائم الترحال في العالم، ولم يكن يعلم مقاصده أحد ولا حتى هو نفسه فكل قرار أكيد، وكل تخطيط، وكل إعلان، كان يثقل روحه البالغة الرهافة. كان المرء يلتقيه بالمصادفة على الدوام. كنت تشعر، وأنت واقف في معرض إيطالي، بابتسامة لطيفة أنيسة من غير أن تدرك مأتاها. وعندئذ فقط تتعرف عينيه الزرقاويين اللتين ينبعث منهما عند النظر إليك نور يضيء محياه الذي لا يؤثر فيك في أحوال أخرى. ولكن هذا المظهر غير المؤثر هو على وجه الدقة أعمق أسرار وجوده. هذا الرجل ذو الشارب الأشقر المتدلي الكئيب قليلاً، والسيماء شبه السلافية، ربما مر به آلاف المارة من غير أن يتخيلوا أنه شاعر، وأنه أعظم شعراء جيلنا، إذ أن فرديته، وسلوكه غير المألوف لم يكونا يتجليان إلا في مصاحبة حميمة. كانت له طريقة في التقرب والتحدث رقيقة رقة لا توصف. وحين كان يدخل على جماعة من الناس، قلما ينتبه له أحد.

كان يجلس هناك مصغياً في هدوء، ويرفع رأسه عفواً عندما كان يبدو أن أمراً يشغل فكره، أو عندما يبدأ هو نفسه بالكلام بلا تكلف ولا جهارة صوت على الدوام. كان يتكلم في بساطة مثل أم تحكي لطفلها حكاية من حكايات الجن، ويتكلم بالحب ذاته أيضاً.

والأمر العجيب عند الإصغاء إليه هو كيف كان أتفه الموضوعات يتحول إلى موضوع رائع ومهم. ولكن حالما كان يشعر بأنه مركز الاهتمام في حلقة واسعة، كان يكف عن الكلام مرة أخرى، ويستغرق في إصغائه الصامت المجامل.

كانت حركاته وإشارته تتصف كلها بالرقة، وحتى حين يضحك لم يكن ضحكه إلا صوتاً خفياً. كانت الأصوات المخففة ضرورة له، إذ أن شيئاً لم يزعجه كالضوضاء، وكالعنف في مجال المشاعر. قال ذات مرة: "إن الذين يبصقون مشاعرهم مثل الدم يرهقونني".. ولم يكن السلوك المدروس، والنظام، والنظافة ضرورات جسدية أقل شأنا، فركوب حافلة مكتظة، أو الاضطرار إلى الجلوس في مكان عام صاخب، كان يعكر صفوه ساعات بعد ذلك.

كان لا يطيق أي شيء مبتذل، ومع أنه عاش في ظروف محدودة، فإن ملابسه كانت تدل دوماً على العناية والنظافة والذوق الرفيع. وفي الوقت الذي كانت تكشف فيه عن تفكير، وخيال شاعري، فإنها كانت آية في التواضع، مع لمسة شخصية غير مقحمة دوماً، من مثل سوار رفيع من فضة حول معصمه. وهذا يرجع إلى أن إحساسه الجمالي بالكمال والتناسق قد دخل في أدق التفاصيل الشخصية.

وذات مرة راقبته في مسكنه قبل رحيله وهو يحزم صندوق ثيابه- رفض مساعدتي لانعدام الحاجة إليها. كان يضع القطع في رفق واعتناء في مواضعها المخصصة لها كأنها قطع فسيفساء، ولو أفسدت مساعدتي ترتيبه البديع لشعرت بأنني قمت باعتداء.

إن هذا الإحساس بعناصر الجمال قد رافقه إلى أقل الأشياء شأناً. فهو لم يكتب مخطوطاته فقط على ورق ممتاز، وبخط يده الرشيق الجميل بحيث تكون السطور مترابطة كأنها مقيسة بمسطرة، بل كان يختار أجود أنواع الورق للرسالة العارضة التي كان يملؤها هي أيضاً بالكتابة النظيفة الرشيقة. وفي أعجل الملاحظات كان لا يجيز لنفسه شطب كلمة، وإن بدا له خطاً في جملة أو تعبير، أعاد كتابة الرسالة بصبره المدهش. إن ريلكه لم يدع شيئاً يغادر يديه قبل أن يكتمل.

كانت طبيعة ريلكه الصامتة، والمتكاملة مع ذلك، تؤثر في كل من يتقرب إليه. كان من المستحيل تصوره صاخباً، مثلما كان مستحيلاً ألا يتخلى مجالسه عن نبرته المرتفعة، وتبجحه أمام الذبذبات المنبعثة من هدوئه، ومرد ذلك إلى أن سلوكه كان له اهتزازات قوة خفية، ومتواصلة، هادفة، مهذبة. وكل من تحدث معه طويلاً كان لا يسعه أن يكون مبتذلاً طيلة ساعات وحتى أيام بعد ذلك.

وبالطبع، فإن اعتدال طبيعته الثابت هذا، وهذا الاعراض عن بذل النفس بالكامل، قد وضع، من ناحية أخرى، حداً مبكراً لأي مودة خاصة. وأظن أن الذين يمكنهم أن يتباهوا بأنهم كانوا "أصدقاء" ريلكه قليلون.

ففي رسائله المنشورة في ستة مجلدات من النادر أن نجد مثل هذه الطريقة في المخاطبة، ولفظة "أنت" الأخوية المألوفة قلما خاطب بها أحد بعد أيام المدرسة. كان السماح لأي شخص، أو لأي شيء، بالاقتراب منه كثيراً يثقل حساسيته غير العادية.

كان كل شيء واضح الذكورة يسبب له مضايقة جسدية. أما النساء فقد كان الخوض في الأحاديث معهن أسهل عليه. كان يسرّه أن يكتب إليهن في الغالب، وكان حضورهن يمنحه مزيداً من الحرية. ولعل ما كان يستعذبه هو رقة أصواتهن، إذ كان يعاني معاناة خاصة من الأصوات غير المستحبة. وما أزال أراه أمامي وهو يتحدث مع أحد الأرستقراطيين ملتوي الكتفين، مطرق الرأس حتى لا تكشف عيناه ما يكابد جسدياً من جهارة صوت السيد المصطنعة. ولكن ما أحلى أن تكون معه عند ارتياحه إلى أحد، عندها كنت تحس وكأن طيبة قلبه تنهمر في أعماق روحك دافئة شافية على الرغم من بقائه مقتصداً في كلماته وإشاراته.

ومع أن ريلكه كان حيياً ومنعزلاً، فقد كان يبدو أنه الأكثر تقبلاً للأفكار في باريس، هذه المدينة الدافئة القلب، ولعل ذلك يرجع إلى أن اسمه وعمله لم يكوونا معروفين هنا، وإلى أنه كان يشعر دائماً بأنه أكثر حرية وسعادة عندما يكون مجهولاً.

يقول في قصيدته "القارئ" المنظومة عام 1901:

وإذا ما رفعت عيني الآن عن الكتاب

لن يكون شيء موحشاً، كل شيء سيكون عظيماً

في الخارج موجود كل ذلك الذي أعيشه في الباطن

هنا وهناك كل شيء بلا حدود، في ما عدا

إني أصبح فيه منجدلاً بأوثق

حين تمضي نظراتي تنسجم مع الأشياء

ومع البساطة الوقورة للحجوم

عندئذ تكبر الأرض عن ما هي عليه

تبدو حاضنة العالم بأكمله

وكأن النجمة الأولى هي البيت الأخير

 

في أحد صباحات تشرين الأول من العام 1926، خرج ريلكه إلى حديقة مقرِّه السويسري لكي يقطف، كعادته، بعض ورودها. لم يكترث عندما جَرَحَتْ يدَه إحدى الأشواك، ولم يَخَفْ حين ظهرت لديه في المرحلة نفسها بوادر اللوكيميا. استسلم بعد أقل من شهرين ووافته المنية.