شهرزادات الصورة..

المسألة الجندرية في سينما المرأة العربية

الخروج من سجن البطريركية (لوحة: نورهان صندوق)

وكالات

الهيمنة الذكورية في العالم العربي تنعكس وبشكل محوري على جميع مناحي الفنون؛ أهمها السينما كوسيلة تعبيرية أساسية عن نظرة الانسان للآخر وللمجتمع بصفة عامة. ولهذا، بات من الضروري محاولة استقراء تأثير الهيمنة الذكورية على وجدان المخرجات صانعات الأفلام العربيات من خلال مواقعهن وراء الكاميرا، وعلى وجه التحديد تمثيلهن للآخر؛ الرجل على الشاشة.

بنظرة سطحية غير متعمقة، يبدو تعلق المخرجات العربيات بحكايات النساء ودواخلهن، لكن نظرتهن للرجل أيضاً لا تقل أهمية، خاصة عند المخرجات المشغولات بقضايا المرأة عامةً.

تمثيل الرجل على شاشة المرأة يحتل أحد قطبي الصراع؛ الذكر الفحل شديد الذكورة لدرجة الفجاجة، أو الذكر الهامشي معدوم الحيلة، تبدو المرأة حاملة النظرة شديدة الانشغال بالنساء وحكاياتهن لدرجة إغفالها دور الرجل طرفاً في الصراع بل ومحركاً له في معظم الأحيان.

في غالبية الأحيان، لا تملك النساء الوعي الكافي للخروج من سجن البطريركية، نظراً لسجنهن وفق منظور الرؤية عند حامل النظرة الذكر وفقاً للتمثيل الأبوي الجندري على الشاشة. كان هذا التأويل للسينما السردية مقبولاً من خلال ورقة لورا ملفي البحثية في السبعينات من القرن الماضي بعنوان “المتعة البصرية والسينما السردية” ومعها الموجة النسوية الراديكالية مؤازرة لها.

ولكن، النصوص المرئية طبقاً للتحليلات النسوية الحديثة في نظريات تلقي المشاهدين للأفلام، تنزع عن المشاهد صبغة المفعول به، وتحيي فكرة المشاهدة التفاعلية، كما تنزع عن صانع الفيلم مسؤولية توقع كيف سيتم تلقي فيلمه عن طريق المتفرج المذعن كلياً للمادة المعروضة قبالته في صالة العرض، فلا يستطيع المنظرون البت بأن المشاهدين يصبحون بالضرورة متواطئين في عملية المشاهدة، لتلقي الأيديولوجيا التي يفرضها عليهم الصانع.

ظلت محاولات صانعات الأفلام للخروج من إطار التنظير النسوي الذي بدأته ملفي في السبعينات محاولات واهية، نظراً لانغماسهن في مأزق الأيديولوجيا والتمثيل الجندري مما يحصرهن في ظل الأيديولوجيا

بتتبع الرجل ومحاولة تمثيل صورته على الشاشة بما يشرح هم النساء الشخصي والإنساني في قراءة علاقة الرجل بالمرأة بشكل عام، نجد أن العديد من الشخصيات الذكورية في الأفلام التي تحمل بصمة مخرجة امرأة تغلب عليها سمات القوة، سواء العضلية أو المهنية أو الجنسية؛ في فيلم مثل “عفواً أيها القانون” للمخرجة المصرية إيناس الدغيدي، تقع الشخصية الرئيسية علي بين طرفي الرحى ما بين والده الثري الذكوري إلى درجة فجة، وزوج المرأة الخائنة صلاح شديد الخنوع، يبدو لجوء الدغيدي إلى رسم محاولة استعادة علي لذكورته المهدورة بسبب عجزه الجنسي عن طريق تخطيه للمرأة النبيلة التي تزوجها بقهرها عن طريق الجنس، ولجوئه إلى مثال المرأة الفجة أنثوياً ممثلة في هياتم شديد البراعة في استقراء أحد أهم ملامح الرجل الشرقي وتصويرها بالاختيار البارع للممثلين كل في دوره؛ محمود عبدالعزيز بملامحه البريئة وصوته المعبر، فريد شوقي في دور الأب المسيطر، وسيد زيان الذي اشتهر بأدوار الكوميديا في دور الزوج الخاضع لزوجته والذي يضطر مرغماً إلى قبول خيانتها رغم المهانة الاجتماعية والإنسانية.

يظهر الرجل كعامل أساسي ومحوري في سينما المرأة العربية، حتى في بعض الأفلام النسوية حد التطرف مثل “دنيا” للمخرجة جوسلين صعب، نجد شخصية مثل الدكتور بشير، المثقف المشغول بالفن ما هو إلا محاولة لمحاكاة الرجل المثالي من وجهة نظر المرأة، من خلال عدستها، يمكن استقراء كيف تحلم المرأة بالرجل المثالي، من خلال استخدامها للمطرب محمد منير رمزاً أكثر منه ممثلاً، هو مثال للذكر المجرد نسبياً من الذكورية كصفة، وإن كان يحمل مقومات تهواها المرأة؛ مثل حلاوة الصوت، والتماثل مع النظرية التي يطرحها الفيلم في تحرر الجسد وربط الجسد بالصوفية، التي تحاول تجريد الإنسان من جنسانيته، ولكن؛ هل نجحت صانعة الفيلم في تجريد الأبطال من جنسانيتهم؛ تصميم الرقصات قام بالاستغلال البديع للممثلة حنان ترك جسداً وتعبيراً، في وضوح تام للنظرة الأنثوية المعنية بالتعبير عن الجسد الأنثوي بصورة غير تشييئية وإن كانت مفرطة في الاحتفالية بمدى قدرته على التعبير. لكن هذا لا يجرد المرأة من جنسانيتها، ولهذا وقف الفيلم –ومن ورائه الصانعة جوسلين صعب– حائراً ما بين الجنسانية الأنثوية التي تمررها الموجة النسوية الثالثة، والانعتاق من الجسد والجندرية التي تناشد بها الموجة الثانية، ممثلة في “النظرة” التي مررتها صعب لرؤية جسد المرأة وهي ترقص رقصاً صوفياً غير مجنسن، متحرراً مما يربطها بالفيتيشية الأنثوية، لكنها أتت في المشاهد التي حاولت فيها دنيا تعلم الرقص على طريقة العوالم كما كانت أمها الراقصة الشهيرة، فإذا بها ترص أجساد النساء المختلفات إلى جانب بعضهن البعض، بينما تتابعهن الكاميرا في إيروسية واضحة لرقصهن شديد الجنسنة، حتى ترتدي دنيا عباءة الجنسانية التي حاولت خلعها بتعلمها الرقص الصوفي في المشاهد السابقة.


العديد من الشخصيات الذكورية في الأفلام التي تحمل بصمة مخرجة امرأة تغلب عليها سمات القوة

في الانتصار للمشاهدة التفاعلية، يمكن للمشاهد تأويل أي مشهد أو تفاعل درامي بين الشخصيات وفقاً لهواه ومزاجه الشخصي، دون أن يكون الصانع من ورائها يقصد أن يصل بالمشاهد إلى هذه التأويلات. يكون هذا الاتجاه شائع الاستخدام لدى متابعي المسلسلات التلفزيونية الأميركية الشهيرة، حيث تخرج بعض العلاقات الرومانسية أو الجنسية بين شخصيات لم تتم كتابتها بهذه المنهجية في بادئ الأمر؛ ومن أشهر الأمثلة علاقة سام ودين الأخوين الشهيرين في مسلسل “خارق للطبيعة” Supernatural والتي حولتها كتابات المعجبين المتيمين بالمسلسل إلى علاقة جنسية كاملة بين الأخوين، حتى تطور الأمر إلى مطالبة المعجبين صناع المسلسل بإعادة صياغة الخط السردي للمسلسل حتى يتواءم مع رؤيتهم لأصل العلاقة جنسياً وعاطفياً.

يمكن إلباس تأويل مماثل في مشاهدة فيلم “دنيا” فالمُشاهد قد يرى في المَشاهد بين عنايات سائقة التاكسي والأستاذة الجامعية أروى خطاً حسياً ضمنياً، قد يدفعه إلى استنباط علاقة جنسية أو عاطفية مضمنة بينهما، تغافلت عنها صانعة الفيلم عمداً أو عن غير قصد، خاصة في مشهد الطبخ، والذي تحاول فيه كل من أروى وعنايات تعليم دنيا الحب، بينما تبدو نظراتهما لبعضهما البعض متلصصة، شبقة، تحمل أكثر من تأويل قد يحتاج إلى متلقي شديد الحساسية، أو شديد الترصد.

ظلت محاولات صانعات الأفلام للخروج من إطار التنظير النسوي الذي بدأته ملفي في السبعينات محاولات واهية، نظراً لانغماسهن في مأزق الأيديولوجيا والتمثيل الجندري مما يحصرهن في ظل الأيديولوجيا، والأمثلة على هذه كثيرة؛ جوسلين صعب، وكوثر بن هنية، تحديداً في فيلم هذه الأخيرة “على كف عفريت” حيث التأثر بفكرة لوم الضحية، أحد التيمات النسوية الشهيرة التي يُثار حولها الجدل تحديداً مؤخراً مع الحملات النسوية الأميركية التي طالت كل شيء من السينما إلى إعلانات التلفزيون، بتركيزها على تقنية تصوير الفيلم كعدة لقطات مطولة دون مونتاج، لتضع المشاهد في قلب تجربة الفتاة التي يتم اغتصابها من قبل رجال الشرطة، لكنها تفرط في اهتمامها برصد التجربة، دون التعمق في التجربة ذاتها، مما يؤطر للأيديولوجيا النسوية، أكثر من الاهتمام بالمحتوى الإنساني والتجربة النسائية الفردية.

وعلى صعيد آخر نجحت مخرجة مثل هيفاء المنصور في الخروج من هذه العباءة لكون عملها الأول “وجدة” يحمل في طياته نقداً نسوياً وسياسياً للأبوية المتمثلة في النظام البطريركي السعودي، وبينما جاءت مشاهد الكبار، وتحديداً مشاهد والدة وجدة، معبرة عن معاناة المرأة في المجتمع السعودي، أتت الحوارات بين عبدالله ووجدة ذكية، رشيقة، توضح الصراع المتنامي في عقل عبدالله ما بين انبهاره وشعوره بهيمنة وجدة، ووضعه في المجتمع الذكوري السعودي كذكر يتم الاحتفاء به نوعياً، دون إقدامه على أي ما يميزه كإنسان عن قريناته الفتيات.

من هو الرجل في سينما المرأة العربية؟

عباس العنتيل أو أحمد زكي، وحسام عنبر أو محمود حميدة لإيناس الدغيدي؛ نموذجان للرجل الشرقي الذكوري شديد الجنسنة، التي تفوح من كلماته وحركاته ولغة جسده الذكورة كما تراها صانعة الأفلام؛ فجة، كليشيهية، وأحادية المنظور. هو أيضاً عمر أو أحمد السقا من منظور كاملة أبوذكري، الرجل الرقيق الذي يخون جميع النساء في حياته، ويخونهن بأريحية تامة، بينما يذرف الدموع على أطلالهن، مرتدياً عباءة الفرسان مع كل خيانة وأخرى. هم رجال نادين لبكي، بكل نزقهم وحماقاتهم وطيشهم، والتي تحاول نساؤها على طول الوقت ترميم ما يفعلون، وتصحيح أخطائهم، وتبديل أفعالهم الاندفاعية بالصبر والمواراة، أفعالاً أكثر صقلاً ونضجاً.

وفي نموذج آخر هو ياسين “زهرة الصبار”، الحاضر الغائب، الرجل اللاجنسي، صاحب اللاصفة في حياة بطلتي الحكاية، وإن كان يقوم بكل ما يجب أن يقوم به الرجل الحقيقي في حياتهما، هو تجسيد للفريندزون بمعناها المضخم؛ الرجل الذي تضعه المرأة في خانة بلا تصنيف، انتظاراً لأن تجد له صفة تلائمه، ربما لأنها تطمح في من هو أكثر مقاربةً للصفة التي تحلم بها. ياسين هو الرجل الذي تراه هالة القوصي النموذج الأكثر اكتمالاً في الفيلم، هو أفضل الشخصيات الذكورية تماهياً مع الكمال الرجولي من وجهة نظر المرأة صانعة الصورة؛ هو الصورة الذكورية من شهرزاد؛ يؤثر في مجرى الأحداث بصورة ناعمة، مموهة، ويتسع دوره ليشمل أثراً كبيراً في حياة البطلتين، وإن كان يبدو وجوده هامشياً.

لوحة: نورهان صندوق

لا تبدو المرأة مقتنعة بأهمية وجود الرجل في محور الحكاية، لم تتحرر صانعات الأفلام بعد من أسر السرد النسوي الذي يركز على المرأة مركز الحكاية السردية، ولم تتخلص معظم المخرجات من الشكلانيات، التي بدت غالبة على حكاياتهن، بصورة أكبر مما تحمله معظم هذه الحكايات. وعندما حاولت بعضهن التحاور مع أبطالها الرجال، ولو عن طريق تجريدهم من سجن التأويل والنقد السياسي أو الاجتماعي، فشلت معظمهن -في مجمل أعمالهن- في فصل الصورة عن صلب الحكاية. وجدنا حكايات عن الانتهاك الجسدي للمرأة على يد الرجل، أو استغلال الرجل للمرأة جنسياً وعاطفياً، وجدنا شهيدات وعاشقات ومضحيات ومخدوعات باسم الحب، ولم نجد المرأة الخطرة أو الذباحة أو القتالة، وجدنا الأم والماتريرك التي تهيمن على عائلة بأكملها، ولم نجد المرأة الضد، الأنا الأخرى لأي من بطلات “الحواديت”.

غابت الكوميديا بشكل عام عن تعامل المرأة مع الرجل، غالباً ما وضعته المخرجة في قفص الاتهام أو النبل الدرامي الخارج من عباءة الحواديت، وغاب الاهتمام الشكلي والجسدي بالرجل، ربما باستثناء إيناس الدغيدي التي اهتمت في الكثير من أفلامها بالرجل جنسياً، ولكن في الوقت الذي حاربت فيه السينما كمتعة تلصصية بطريركية عن طريق تصوير النساء والغوص في خصوصيات أجسادهن، غابت عن صانعات الصورة أهمية التلصص على الرجال من زاوية كاميراتهن، فخرجت صورة الرجال باهتة، بعيدة كل البعد عن التشييء، حتى في أكثر الأفلام ميلاً إلى الجنسانية والجنوسية، لا يستطيع المشاهد تتبع الرجل كما تتأمله صانعة الأفلام، في فيلم مثل “على حلة عيني” للمخرجة ليلى بوزيد، تحتفي المخرجة بالصغيرة فرح، جسدياً وشعورياً وحسياً، تتابعها الكاميرا في تصور حسي بديع، وتتابعها الحكاية السردية بينما تحرك مجرى الأحداث، وتدفع بالشخصيات إلى الأمام، ولا نجد فيلماً نسوياً أو نسائياً مماثلاً يدفع بشخصية رجولية مغايرة للأمام.

في مفهومهن التقليدي عن النسوية، تبدو المخرجات العربيات محصورات وفق ميزان الموجة النسوية الثانية، عندهم الرجل رجل والأنثى أنثى، نادراً ما نجد شخصية سحاقية مثلاً، ونادراً ما نجد تمثيلا مغايرا للذكورة على الشاشة، أسوة بأفلام كزافييه دولان المخرج الكندي المثلي، أو “مونلايت” لباري جنكنز، والمأخوذ عن مسرحية الأميركي الأسود تاريل ألفين مكراني “في ضوء القمر، يبدو الصبية السود بلون أزرق”؛ وهو رجل مثلي يكتب عن تجربته المغايرة للسائد، شديدة الخصوصية.

وفي الوقت الذي تجاوبت فيه تجربة هذين الصانعين مع الموجة النسوية الثالثة بكل تحررها من الصورة الجامدة للجندر، ظلت المرأة العربية أسيرة حكايا الاغتصاب، والتحرر، والتدين، والخروج من عباءة القيد الجسدي، والحب المحرم. ليس المقال محاولة للهجوم على “نظرة” المرأة العربية للرجل، لكن محاولة تفكيكها إلى العناصر الأولى، تجدها كلاسيكية في مجملها، هشة، غير مكتملة الطزاجة أو النضج، فمشهد من مسلسل “واحة الغروب” للمخرجة كاملة أبوذكري، والذي يحمل سحاقية ملتبسة ما بين امرأتين، هو أكثر نضجا من مجمل أعمالها السينمائية، والتي تؤطر للعلاقة الكلاسيكية بين الرجل والمرأة، والصورة الكلاسيكية للمرأة المتحررة (شامية في “يوم للستات”) والفتاة منكسرة الفؤاد (عالية في “عن العشق والهوى”) وبنات الطبقة الشعبية (“واحد صفر” و”يوم للستات”). ليس الأمر نقداً للأفلام ذاتها، بقدر ما هو نقد للتمثيل النسائي فيها. في الظاهر تبدو الشخصيات النسائية عند كاملة أكثر وفرة وطزاجة من الرجال، لكنهم في الغالب يقعون تحت أسر التعاطف التام في التعامل معهن، والرغبة في تنوعهن الشكلاني والعمري، بصورة تطغى أحياناً على التعددية النسوية التي تحتفي نسبياً بكثرة الشخصيات النسائية في السرد، وإن كان الطموح الأكبر يستلزم التحرر من النظرة البطريركية لهذه الشخصيات.