إنها رحيق الحياة فبدونها لاحياة والموت أفضل..

في غيابها

الكاتب الأردني خيري منصور

خيري منصور (واشنطن)

هي الابنة البكر للطبيعة، ولها أبجدية من حفيف الشجر وما يرشح من ذاكرة الحجر، سواء كان شاهدة لقبر أو تمثالا لرودان أو سلاحا بدائيا بيد طفل.

في البدء كانت، لأنها توأم الكلمة، وهي المغناطيس الذي يجتذب كل شيء من برادة الحديد حتى رماد الكتب التي أحرقت في سبيلها، لكن ما من شيء يجتذبها، لأنها في كل بذرة في باطن الأرض وفي كل مطلق خارج المدارات كلها، وهي أيضا عاصمة النشيد، الذي يبقى بدونها تمثالا من ثلج ما أن تشرق الشمس حتى يذوب ويتلاشى، وعبثا نحاول الإمساك بها، ليس لأنها زئبقية تزوغ من الأصابع، بل لأنها جمرة لا تنطفئ حتى لو صُبّ عليها المحيط، وما أشبهها ببحيرة الأسطورة اليونانية التي تقترب من شفتي الظامئ لكي تنأى، وهي أقرب إلى العين من الحاجب، لكن العين لا تراها إلا إذا مشى الناس على رؤوسهم وعلت العيون على الحواجب.

باسمها تفوق الآدمي على غرائزه وحلق عاليا بحثا عن رحيقها، لأن شهد ملكات النحل مرّ إذا قورن بشهدها وشهيدها معا، ابنتها البكر هي العدالة، التي لولاها لما بقيت الفراشة حيّة وكذلك العصفور، بينما أوشك وحيد القرن على الانقراض، لأن العرق الذي يتسرب من مسامات جلده دم، أما عرقها فهو بلسم لمن لدغته ثعابين الطغيان.

إنها مبتدأ الجملة التاريخية وخبرها أيضا، وبلاغة الصمت عندما يصبح الكلام أقرب إلى الفحيح والثغاء، وما قلته حـــــتى الآن قد يكون أقرب إلى الأحجية، سواء تعلقت بأبي الهول أو بالهول ذاته، لكنها في نهاية المطاف كلمة، وأحيانا تصبح حرفا يشبه المشنقة هو لا… التي لا تطبق الشفتان عليها كما تنطبقان على كلمة نعم، وقد حيرت المستشرق والمستغرب معا في جذر اشتقاقها، ما دفع روزنتال إلى ربط جذرها بالنار الأزلية.

كلمة كلما اقتربت منها الأصابع ارتعشت لأنها تلسع كالجمر، ولها أشواك تدافع عن وردتها كما تدافع أشواك الصبير عن الماء الذي يختزنه جذعه في الصحارى، وكتب أريك فروم مئات الصفحات عن هروب البشر منها، كما تصورها سارتر صخرة ثقيلة يحملها الإنسان وهو يقطع نهرا.

في غيابها يحاول الفحم أن يتلألأ بدلا من الماس الذي يعتذر عن وهجه وصلابته، وتطلب السنبلة الغفران من المنجل الذي قطع عنقها، وفي غيابها أيضا يعتذر الغزال للأفعى عن ساقيه، والصقر للسلحفاة عن جناحيه، ولأنها توأم الشمس منذ أول شروق لها، فإن غيابها يجعل الأشياء كلها سوداء في الظلام كما يقول هيغل.

هي شحنة القصيدة وجذوتها وسرّ الغيمة الحبلى التي تلد في البحر الذي ولدت فيه.

تعددت أسماؤها في قواميس اللغات، لكنها المشترك البشري واللغوي والأرضي والسماوي، ما دام الذين دافعوا عنها واحترقوا بلهيبها وتضرجت أيديهم بالدماء وهم يدقون على أبوابها، ولو كانت مع رجال غسان كنفاني الذين قضوا في الخزان لدقوا الباب، أو ربما خلعوه بأسنانهم كي يخرجوا، لأنها أوكسجين بقدر ما هي ندى، وحين تغيب لا يبقى من النفس غير الزفير؟

الهاربون من أعبائها اضعاف الذين أقبلوا عليها كما تقبل الفراشات على النار والنور، لأنها حمولة باهظة لا يقوى عليها غير من قرر أن يجوع ولا يأكل بثدييه، وإذا كانت العدالة ابنتها البكر فإن آخر العنقود هو الاستغناء، ليس بمعنى الانكفاء أو التقشف الروحي، بل بمعنى منح الاعتراف وليس انتظاره من أحد، وإذا كان البحر يبتل من المطر فهي تبتل من دمها، لأنها نزفت عبر التاريخ من الدم ما يكفي لأن تطفو ولا تغرق، وحين نقش الإغريق القدماء اسمها على أضرحة أبطالهم الذين ذادوا عن أثينا الفلاسفة ضد الغزاة كان لديهم وعي مبكر بأن العبد يختلط عليه الأمر، فلا يرى فارقا بين أسورة الذهب والقيد، وأخطر ما يترتب على غيابها هو إصابة من فقدوها، أو لم يعرفوها بالمازوشية بحيث يستمرئون الألم ويتلذذون بالخنوع، وحين يشمون رائحتها عن بعد يصابون بالفزع لأنها باهظة التكلفة، وتحول سؤال الوجود إلى مساءلة أخلاقية.

وحين قال لوركا إن من لا يصغي لأنين حمامة سقطت مضرجة بدمها، ولم يعثر عليها الصياد ليس شاعرا على الإطلاق، وبهذا المقياس فإن من لا تصل اليه استغاثة ضحية من أقصى الأرض ليس أكثر من حيوان ثديي يتكاثر.

إن سقوط نقطة واحدة عن يائها تحولها إلى حربة تخترق اللحم والعظم حتى النخاع… إنها الحرية.

٭ كاتب أردني

في غيابها

خيري منصور