سرد قصص تفك ألغاز الجريمة..

الأدب الأسود ومحمولاته العلمية

بروين حبيب

بروين حبيب(أبوظبي)

إلى فترة قريبة كنت أعتقد أن الأدب الأسود هو الأدب الذي كتبه السود الأمريكيون، وأن هذا اللقب أطلق على المنتج الأدبي الذي كتبه أفارقة أمريكيون، وفيه من العنصرية ما يفوق مصطلحات كثيرة تُعتمد في القاموس الأدبي، وهي في أبعادها صفات مقيتة نابعة من مشاعر الكراهية والتفرقة الجنسية والتعالي على الآخر.
ومع أنني لست بالقارئة الجيدة للأدب الإفريقي الأمريكي، إلاّ أنني قرأت لبعض من تألقوا ونالوا جوائز بحكم شهرتهم وترجمتهم للغة العربية، مثل توني موريسون، ولكنني اكتشفت في خلال محادثة جمعتني برفيق سفر إلى فيينا، أن هذا المصطلح يُطلق أيضا على نوع آخر من الأدب، نعرفه ولا نعرف تصنيفه، وفي مقارنة سريعة في رأسي شعرت بأن المصطلح أيضا ابن بيئته، وقد تكون محمولاته «علمية» وقد تكون غير ذلك.
الأدب الأسود الذي تحتفي به منطقة النورماندي في عيد الفصح، أدب بوليسي يقوم على سرد قصص تفك ألغاز الجريمة، وهو نوع محبوب لدى فئة كبيرة من القراء. حتى نحن في العالم العربي دخل إلينا هذا الأدب مترجما في فترة مضت، ونال الكثير من الاهتمام منّا خلال فترة عمرية معينة، تنحصر بين عمر المراهقة والشباب.
في فترة صباي حين قرأت هذا النوع من الأدب بشراهة، لم أكن أعرف مصدره، وقد عرفت في ما بعد أن الناشرين اللبنانيين كانوا يجتهدون لتجديد ما يقدمونه للقارئ، وأن إتقانهم للغات هو الذي جعلهم يجلبون نصوصا مختلفة من أقاصي الدنيا ويوزعونها في العالم العربي، وكانت قصص النورماندي البوليسية أسهل من أي نصوص أخرى بالنسبة لهم، لأن عددا لا بأس به منهم يحب فرنسا ونتاجها الأدبي المتنوع، وكون تلك المنطقة القريبة من باريس والمحصورة بينها وبين البحر منطقة لها ما يميزها من طقوس الحياة، كما أن لها تاريخا يميزها وغنى ثقافيا معتبرا، وطبيعة ريفية تزينها المرافئ بسحر خلاب، وكلها معطيات ممتازة لعشاق الكتابة. 
من لا يعرف «أرسين لوبان» اللص الظريف على سبيل المثال؟
الشخصية التي غطّت بظلالها مؤلفها موريس لوبلان – الذي توفي في أربعينيات القرن الماضي – وحاربت الظلم وطاردت المجرمين وأرهقت رجال الشرطة حتى بدا أغلبهم أغبياء.. شخصية رافقت طفولتنا وظلّت في الذاكرة بدون حتى أن نتذكر اسم الكاتب، فقط نتذكر هوس القراءة الذي أصبنا به منذ قراءة أول كتاب، واستمرار تلك المتعة مع أغلب كتبه التي وصلتنا. 
كل ما عرفته هو أن أرض النورماندي أرض الروايات المختلفة، أدب الجريمة، والألغاز، والمشاعر المتطرفة حدّ القتل، والقارئ الذي لا يكتفي بالمتعة خلال القراءة بل بالاكتشاف والانصهار في الأحداث، لدرجة يصبح فيها شخصية إضافية تعيش تفاصيل الرواية، والأمر هنا شبيه بممارسة رياضة فكرية أقرب للعبة الشطرنج، والألعاب المشابهة التي تنشط اليقظة وترفع مستوى الذكاء. ليس غريبا أن تنجب منطقة مثل هذه، هذا النوع بالذات من الأدب، إذ يقول الفرنسيون إن غوستاف فلوبير قام بقتل بطلته «إيما» هناك، كون جغرافيا المكان ألهمته ذلك، وسواء كانت التهمة مناسبة لذلك الحدث الضارب في الماضي الأدبي للمنطقة أو لا، فإن شياطين هذا الأدب سكنت بين البيوت الجميلة فيها، ووجدت في هدوئها ما ينمي الملكة الإبداعية لكتاب المنطقة. وإذ يقال إن فيروس الأدب معدٍ في الحقيقة، وينتشر بسرعة في الأماكن التي تحضنه، فإن ذلك يرجع لطبيعة البشر المائلة للتقليد والغيرة وحب الظهور، والإبداع عموما، بما فيه الأدب، الذي لا ينمو إلا في أوساط متشبعة بهذه المشاعر والميولات، لهذا نجد مدنا بأكملها تتميز عن غيرها بفنون معينة، وهي إذ تعج بالجيد والجميل فإنها أيضا تعج بالرديء والسيئ، ولنا في بعض مدننا أمثلة جيدة لذلك، القاهرة على سبيل المثال في صناعة السينما وكتابة السيناريو وإنتاج الدراما بأنواعها.
تبادرت إلى ذهني قصة أكبر إنزال أمريكي على سواحل النورماندي، وما تركه من آثار مفجعة على تلك الأرض، ثم تبادر إلى ذهني ما قرأته من موضوعات مقتضبة حول تاريخ المنطقة، خلال فترات متباعدة، وأدركت أن للأدب الأسود بذورا قديمة في المنطقة، وليس بعيدا أن تنجب المنطقة العربية ما يشبه، وإن كان أدبنا سوداويا منذ النكسة الأولى، وقد ازداد قتامة بعد نكسة 67، ثم ها هو اليوم بعد المحنة العراقية والسورية واليمنية والليبية، يدخل جهنّم من أبوابها الواسعة، ولا أدري أي مصطلح سيليق بأدبنا وهو متفوق في وصف البؤس واليتم، والقتل العشوائي والتفنن في سرد ألوان التعذيب وطرقه التي لم نقرأ عنها إلا في كتب صفراء حدثتنا عن عذاب القبر وأهوال الآخرة.
بعد ربع قرن من القتال المتواصل بين الأخوة، وهو قتال لم يتوقف منذ العصور الغابرة – حسب مرويات التاريخ – إلاّ حين واجهنا الاستعمارات الأجنبية التي اعتدت على أراضينا، لا نزال نعيش مواجهة مؤلمة مع نتاجنا الأدبي ودوره، هل سيبقى وليد تلك البذور التي لا تعطي سوى الأعشاب الضارة بشكل أبدي؟ أم أن أملا ما قد يخرج الحي من الميت ويجعل من آدابنا مادة لصنع التغيير الداخلي فينا، وإفراغ شحن العنف في الأدب لتنتهي إلى أشكال فنية وجمالية وبالتالي نولد بنفسيات لا تنحو نحو العنف بقدر ما تنحو نحو إنتاج الجمال؟ 
في الواقع وقبل أن نعطي إجابة نهائية لكل هذه الأسئلة، نحن ننقل وقائع ولا نبحث في أسباب العنف والجريمة والتمادي في تصفية الآخر. لم نكتب ربما لنفسِّر مفاصل الحدث الإجرامي، رغم ما فيه من إثارة سواء من جهة الكاتب أو القارئ، لم نذهب في تجاربنا الأدبية نحو خلق أنواع سردية جديدة، ربما لأن الواقع بكل سوداويته تفوَّق عمّا يمكن أن تنجبه المخيلة، ربّما قضى على المخيلة تماما حين تحوّل إلى لعنة تتعقَّب الأجيال العربية مع سبق الإصرار والترصُّد وتسعى إلى تدميرها. وهذا في حدِّ ذاته تنبوء سيء لمستقبل مليء بالغيوم، لكن علينا أن نعترف بأن الأدب لا يغير لا الإنسان ولا المجتمعات، كما قال الكاتب المغربي الطاهر بن جلون، لكن غيابه يجعل من الإنسان كائنا غير قابل للرفقة، بمعنى ما أن الأدب يخفف من «وحشنة» الإنسان، ومن وجهة نظري أن الأدب قد يكون أحد أهم العوامل التي تحث الإنسان على التفكير، والتأمل في أموره وحياته وعلاقاته وإعادة بنائها متى ما شعر بأنّها بدأت تنهار وأنه فقد السيطرة عليها.
قد تكون مجرّد وجهة نظر، ففي الغالب ما تبوح به أقلامنا لا تبوح به الشفاه إلا بصعوبة، وهذا ما يزخر به أدبنا الأسود المدوَّن بأقلام ضالة كفيفة لا تشرق عليها الشمس إلا في مناسبات فصلية نادرة، عكس أقلام النورماندي وأفارقة أمريكا.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين