"يموت الكبار وينسى الصغار"..

كيف أفشل أطفال فلسطين فلسفة إسرائيل؟

أطفال فلسطين

وكالات

"مات الكبار ولم ينسَ الصغار". تلك حقيقةٌ أجهضت فلسفةً زعم الاحتلال الإسرائيلي أنّ ترسيخها سيتحقق يوماً ما، بعد أن أعلنتها رئيسة الوزراء غولدا مائير إبان النكبة عام 1948.

طوال السنوات الماضية، حاولت إسرائيل أن تخمد نار المقاومة باتباع أساليب عدة، منها القضاء على "الكبار"، وهو أمر كفيل بأن يحقق الجزء الأول من "فلسفة مائير"، ثم يأتي الدور لاحقاً على الجزء الثاني، المتمثل في "نسيان الصغار"... لكن الأيام والوقائع أثبتت فشل ذلك.

يذكر المحلل الفلسطيني أيمن الرقب أنه "منذ نشأة الاحتلال، كان يراهن على أنّ الأجيال ستنسى، لكن وقائع عديدة ومنها مسيرات العودة التي انطلقت في قطاع غزة مؤخراً أثبتت فشل ذلك، فالأطفال تقدموا الصفوف بالآلاف ليؤكدوا إصرارهم على العودة إلى أرضهم".

ومنذ أن وطأت أقدام الاحتلال أرض فلسطين، لم ينعم أطفالها، كما ينعم كل أقرانهم في العالم، بعيش طفولتهم ولم يتمتعوا بممارسة هواياتهم. لكنّ عندما يُولد الطفل الفلسطيني فإنّه يولد ومعه الهم لأنه موجود تحت الاحتلال ويتحمل أعباء الأوضاع المترتبة عنه.

يضع الرقب تفسيراً لنضال الأطفال الفلسطينيين ضد الاحتلال على مدار التاريخ، ويقول: "الطفل الفلسطيني في الداخل يجد أنّ أحد أفراد أسرته وربما كلهم قد اعتقلوا أو استشهدوا، وبالتالي يرضع الوطنية منذ بداية طفولته، وينتج عن ذلك أن يصبح جزءاً من هذه الحالة".

ويضيف لرصيف22: "الظروف في الداخل فرضت نفسها، وتجربة الخارج ارتبطت بنموذج آخر وهو وجود فلسطينيي المهجر الذين تعرضت بعض مخيماتهم للدك والقصف مثلما حدث في لبنان، في عدة مناسبات أكبرها ما حدث في بيروت عام 1982، حين قتل الإسرائيليون الأطفال جنباً إلى جنب مع الفدائيين الفلسطينيين، ومن ثم أطلق عليهم لقب أطفال الآر بي جي".

"أطفال الحجارة" هي تسمية كانت قد برزت خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، وفي خضم تلك الأحداث، انتشرت صورٌ لأطفال عزل في المدن والقرى الفلسطينية، يحملون الحجارة مجتمعين في مواجهة الآليات العسكرية وأمام الرصاص الكثيف الذي كان يرد به جنود الاحتلال الإسرائيلي.

في تلك الفترة، شاركت في الانتفاضة كل مكونات الشعب الفلسطيني، وحمل الأطفال الحجارة وأشعلوا الإطارات، ووصل عدد الأطفال الذين اعتقلوا إلى الآلاف.

ففي عام 1988، وصل عدد المعتقلين الأطفال إلى 1200 طفل من سن 8 إلى 16 عاماً، وظلّت وتيرة "مقاومة الأطفال" مستمرة. وبشكل عام، منذ احتلال فلسطين حتى الآن، فإنّ عدد مَن اعتقلوا بلغ مليون فلسطيني، ما يعني أن خمس الشعب تقريباً تعرض للاعتقال، وبالتالي فإنّ الطفل الفلسطيني وجد نفسه يشارك الشعب في فعاليات المقاومة.

وفي السنوات الأخيرة، في مرحلة سيطرة السلطة الفلسطينية، لم يخرج الأطفال من دائرة الاستهداف من قِبل الاحتلال. وأخيراً، خلال الأيام الماضية، تزامناً مع مسيرات العودة، اعتُقل عدد من الأطفال بينهم طفلان لم يتعدَّ عمر كل منهما الثماني سنوات.

ويقول الرقب: "تمّ اعتقال الطفلين لعدة أيام ثمّ أطلق سراحهما، وكانت التهمة الموجهة إليهما هي رشق حجارة، وهذا أمر مخجل للإنسانية".

خالد... الأسير ابن الأسير

ينطبق لقب "الأسير ابن الأسير" على الطفل الفلسطيني خالد حسام الشيخ من بلدة بيت عنان شمال غرب القدس. أبوه اعتُقل أربع مرات، أولاها عام 1984 وقتما كان عمره 16 عاماً، حين استهدفه الاحتلال عقاباً على نشاطه في الانتفاضتين الأولى والثانية.

حمل حسام صفة الأسير، وبعد مرور سنوات، في ديسمبر 2014، أصبح يحمل صفة "والد أسير"، إذ اعتُقل ابنه خالد، ابن الـ14 عاماً.

يقول الأب إنّ ابنه اعتُقل أثناء ذهابه للتنزه في بلدته، فاعترضته قوات الاحتلال، فردّ عليهم بإلقاء الحجارة، فقُبض عليه، ثم اقتيد إلى سجن عوفر الذي خصّصه الاحتلال للأطفال المعتقلين.

يذكر خالد لرصيف22 أنّ تجربة الاعتقال أثّرت عليه نفسياً بشكل كبير، كما أثرت عليه صحياً بعد حرمانه من تناول الدواء وهو يعاني من ضعف الدم. ويضيف: "اعتقال طفل عمره 13 سنة أمر غير طبيعي، لكن في الوقت نفسه هذا الأمر يعطينا الكثير من القوة في مواجهة الاحتلال، ويعلّمنا حب الوطن وأن نضحي بأنفسنا من أجل وطننا. لقد كنا نخبر أنفسنا بذلك في المعتقل".

مرّ خالد بظروف قاسية في الاعتقال، وتحدّث عن انتهاكات تعرّض لها منها نقص الملابس ومنع أسرته من زيارته، بالإضافة إلى الضرب في بعض الأحيان واتباع أساليب قمعية من أجل تخويفهم.

ورغم أنّ الاحتلال عمد من خلال اعتقال الطفل إلى ترهيبه ليكره القضية ولا ينضم إلى كتيبة الأطفال المقاومين، لكنّ العكس هو ما حدث. يقول خالد: "داخل المعتقل، عرفت تفاصيل كثيرة عن المقاومة الفلسطينية، وهذا من خلال الأسرى المعلمين. كانوا يحكون لنا ماذا تعني المقاومة وأهميتها ضد الاحتلال، لذلك قررنا أن نثبت على موقفنا وأن نظل مقاومين مناضلين حتى تحرير الأرض والوطن".

ويوضح والد الطفل: "بحكم تجربتي ضد الاحتلال وفي المعتقل، نربي أطفالنا على حب الوطن والمقاومة... نغرس فيهم فكرة أنّ الأرض لن تُسترد إلا بالمقاومة وحتى بالتضحية لأننا أصحاب حق".

يتفق مع ذلك الخبير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خالد سعيد ويقول إن "اعتقال أطفال في هذه السن الصغيرة يؤدي إلى حالة نفسية تطغى على كل طفل، لكن مع التجربة يتحوّل الطفل المعتقَل إلى مقاتل شرس يورث أبناءه حب المقاومة ضد الاحتلال".

عهد التميمي... صفعة على وجه الاحتلال

أيقونة أخرى من أيقونات النضال الطفولي الفلسطيني هي عهد التميمي، المعتقلة منذ أشهر لدى سلطات الاحتلال بتهمة صفع جندي إسرائيلي.

وُلدت عهد في قرية النبي صالح شمالي رام الله عام 2001، وهي طالبة في الثانوية العامة، الفرع الأدبي في مدرسة البيرة الثانوية للبنات.

بدأ نضال عهد باكراً ضد الاحتلال. ففي عامها الرابع شاركت في احتجاجات أبناء قريتها ضد اعتداءات الاحتلال عليهم، وأيضاً في عامها العاشر ظهرت وهي تواجه جنود الاحتلال دفاعاً عن أمها "ناريمان"، خلال مسيرة سلمية مناهضة للاستيطان في أغسطس 2012.

في مشهد نضالي آخر عام 2015، شاركت عهد في تخليص شقيقها محمد من يد جندي إسرائيلي تعدّى عليه وهو مكسور اليد، وأُشيد حينها بشجاعة تلك الطفلة.

وفي ديسمبر الماضي، اعتقلت قوات الاحتلال "الطفلة عهد" برفقة والدتها، ووجّهت إليها تهمة صفع جندي إسرائيلي، بعدما تمت مداهمة منزلها. وبعد جلسات من التحقيق والمحاكمات، تقرر حبس عهد لمدة ثمانية أشهر، ووالدتها لمدة خمسة أشهر.

يقول باسم التميمي، والد الطفلة: "عهد نشأت في أسرة نضالية. جميعنا تقريباً تم اعتقاله من قبل قوات الاحتلال، وهذا الأمر لم يولّد لديها أي خوف على الإطلاق".

ويضيف: "عهد تقاتل من أجل حرية فلسطين، وستظل هكذا حتى آخر نفس. لا مكان للاحتلال، وأطفال فلسطين هم مَن سيحسمون المواجهة مع إسرائيل".

ويؤكّد باسم أنّ أطفال فلسطين يجب تربيتهم على حب المقاومة، وعدم إعطاء الفرصة للاحتلال ليرزع ثقافة الخوف داخلهم.

جنى... الصحافية المرعبة

في قرية عهد ذاتها، وفي الأسرة نفسها، لم تكن ابنة خالتها جنى جهاد إلا أيقونة أخرى لكل أطفال المقاومة.

جنى لم تتجاوز الـ12 عاماً من العمر، لكنها تفعل أموراً تسبق سنها بأعوام طويلة. ففي سن صغيرة شاركت في تظاهرات ضد الاحتلال، وإضافة إلى ذلك فهي صحافية، ربما الأصغر في العالم، تعمل من أجل القضية الفلسطينية وتوثق بعدستها ما يحدث على أرض فلسطين وتنقله إلى العالم أجمع من خلال فيديوهات عبر الإنترنت.

ولـ"هول تأثيرها"، أصدرت وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية تقريراً سريّاً وصفها بالخطر الأمني القادم على إسرائيل.

يحدثنا باسم التميمي قائلاً: "جنى مثل عهد وغيرهما من أطفال فلسطين أدركن منذ الصغر ضرورة مقاومة الاحتلال".

ويضيف أنّ جنى ترى أنّها مسؤولة عن نقل رسالة للعالم أجمع عن الانتهاكات الإسرائيلية، ويؤكّد أنّ "مثل هذه النماذج تعطي الأمل في غدٍ مشرق".

ونقل لنا باسم عن لسان جنى قولها: "لن أتوقف. سأظل أفضح الاحتلال. وسنحرر أرضنا".

نظرة تحليلية

يعلّق الرقب على هذه النماذج بالقول: "أطفال فلسطين صحيح أنهم يفقدون طفولتهم لكنهم يكسبون رجولتهم، في حين أنه في مجتمعات عربية وغربية ينعم الأطفال بالألعاب وبكل ملذات الحياة، والطفل الفلسطيني يبحث عن كيف يلهو في جنود الاحتلال ويزعجهم"، ويضف: "أعتقد أنّ هذه لعبة من الألعاب المتطورة تكنولوجياً وميدانياً، فهو يمارسها مباشرة في مواجهة مع الاحتلال بدلاً من الألعاب الإلكترونية".

ويؤكد أنّ الرهان معقود على هذه الأجيال التي تكبر. وفي آخر إحصائية كانت نسبة مَن هم دون الـ18 عاماً في المجتمع الفلسطيني 65%، ما يعني أنّ هذه النسبة من المجتمع أطفال، بحسب المعايير الدولية، وبالتالي نتحدث عن مجتمع فتي وناضج ونسبة الرجولة فيه عالية جداً، وهذا يؤكد أنّه لا يزال هناك أمل رغم سوداوية الصورة في المنطقة بشكل عام.

وينتقد الرقب منظمات حقوق الإنسان قائلاً: "جهات دولية كثيرة مثل تلك المعنية بحقوق الإنسان، لا تفعل سوى إطلاق شعارات ولا يمكنها تنفيذ أي قرار"، متسائلاً: "كم قرار صدر من تلك المنظمات حول الأطفال الفلسطينيين وحرمانية اعتقالهم ولم يُنفّذ منها شيء؟ كم قرار صدر من اليونسكو حول الأطفال أيضاً؟ هذا مجتمع ظالم، تتحكم فيه دولة القهر، الولايات المتحدة".

ويضيف: "نراهن على قدرة شعبنا بأن يبقى فتياً. وآخر إحصائية أُعلنت عن فلسطين التاريخية كشفت أنّ عدد الفلسطينيين تجاوز للمرة الأولى عدد السكان اليهود وهذا الصراع الديمغرافي هو ما نراهن عليه. نراهن على جيل واعٍ، سيبقى واعياً طالما أنّ هناك أمهات تربين أبناءهنّ على الرجولة والفدائية وحب فلسطين".

يتفق مع ذلك المحلل خالد سعيد الذي يشدّد على أنّ "مقاومة الأطفال هي أكثر ما يزعج الاحتلال، لكونه يدرك استمرار المواجهة حتى سنوات عديدة مقبلة".