الرواية البكر لبدور زكي محمد..

«غوايات الوهم» وثنائية الحُب

غلاف كتاب «غوايات الوهم»

وكالات (لندن)

صدرت عن دار «دلمون الجديدة» رواية «غوايات الوهم» للكاتبة العراقية بدور زكي محمد المُقيمة بلندن حالياً، وهي باكورة أعمالها الأدبية.

وعلى الرغم من دراسة بدُور للقانون والسياسة وتخصصها في هذا المضمار، إلا أن اهتمامها الحقيقي منذ الصغر كان مُنصباً على الأدب، فقد كتبت العديد من القصص القصيرة بأسماء مُستعارة، ونشرتها في صحف ومجلات عراقية وعربية، وننتظر صدورها في مجموعة قصصية تحمل اسمها الصريح بعد أن رأت روايتها الأولى النور، وصارت مُتاحة بين أيدي القرّاء العراقيين والعرب وعلى وفق هذه المقاربة، فإن شغف بدُور زكي بالأدب لم ينبثق من فراغ، وإنما له جذور ضاربة تمتدّ إلى أيام الصبا والشباب وقد تفتّق هذا الولع مؤخراً عن رواية كبيرة بلغ عدد صفحاتها 340 صفحة من القطع المتوسط.

يبحث النقاد في الإصدارات الأولى عن أشياء مختلفة تُشكِّل قطيعة مع الأنماط السائدة مثل الصوت الخاص الذي ينتمي لصاحبه ولا تجد أصداءه في نبرات الآخرين، أو التقنية الحديثة التي تحطم آلية السرد الكلاسيكي، وتستعيض عنها بالنَفَس «البوليفوني» المتعدد الأصوات، أو الثيمة الجريئة التي تقول كل شيء دفعة واحدة إذا كان هناك ما يبرّرها في العمل الأدبي الذي يفضح المسكوت عنه، ويعرّي الأشياء المحجوبة، ويُجبرنا على إِعمال الذهن في الأشياء اللامُفكَّر فيها.


من المبكِّر جداً القول بأن الروائية بدور زكي تمتلك «صوتاً متفرّداً» أو «بصمة خاصة» لأنها تحتاج إلى إصدار ثلاث أو أربع روايات ناجحة فنياً قبل أن نُصدر هذا الحُكم النقدي المسؤول الذي يعتمد على اشتراطات الجودة، والإبداع، وديمومة العمل الأدبي كنصٍ مقروء إلى أمدٍ بعيد غير أن هذا لا يمنعنا من التنبؤ ببصمتها الخاصة التي يمكن تلّمسها في اللغة، والأسلوب، والبناء الفني وما إلى ذلك من مُعطيات فنية يمكن أن نردّها إلى كاتبة النص ومُبدعته.

أما النَفَس «البوليفوني» فيتمثل بثلاثة أصوات رئيسة تتوزّع على أماني عمران، وأحمد، وكريم آخذين بنظر الاعتبار الاستعادات الذهنية التي تصطحب العديد من الشخصيات إلى الماضي، لتُعيد ترتيب الأحداث وسردها بطريقة تصاعدية تشتبك بالأوضاع الراهنة التي تدور فيها حُزمة من الوقائع المهمة التي يكتظ بها هذا النص الروائي الإشكالي الذي حمّلته الكاتبة أكثر من طاقته.


تكمن الثيمة الرئيسة في عنوان الرواية أولاً قبل أن تتشظى إلى آراء مختلفة، فمن «غوايات الوهم» تأخذنا الروائية عبر بطليها الرئيسين أحمد وأماني إلى مفاهيم حادّة من قبيل الرغبة، والحُب، والتملّك، والحاجة، والإحساس بالحرية.

وبُغية الإمساك بالثيمة الرئيسة لا بد من رسمٍ بياني يوضِّح خط العلاقة العاطفية بين الشخصيتين المحوريتين في الرواية، فأماني عمران كانت مرتبطة بعادل مختار لكنها انفصلت عنه نهائياً، وظلت تسعى بشكل محموم لاستعادة ولدها «رامي»، أما أحمد فهو متزوج من إليانور التي تنتمي إلى أبٍ عراقي وأم ألمانية، وقد أنجبت له ولداً وبنتاً، وهما كريم وناتالي، لتضعنا الروائية أمام ثنائية الشرق والغرب في قصص متعددة ضمن الهيكل المعماري لهذا النص الروائي المحبوك، فهناك إكرام ويوهان الألماني، ونائلة ومارتين، وجورجيت (العراقية) وفان دير نوت الهولندي، وسيغولين ذات الأصول العراقية وكلود الفرنسي، وسامي نعمة وزوجته السويدية المدمنة التي لم يرد اسمها في متن الرواية. وبالمقابل هناك علاقات أوروبية محض أبرزها علاقة إليانور بالفنان التشكيلي الإيطالي لوتشيانو.


على الرغم من اللقاء المتأخر الذي جمع بين أماني وأحمد في مدينة فايمر الألمانية، إلا أنها كانت تعرفه في العراق، وتقرأ قصصه المنشورة، وقد حضرت حفل توقيعه لرواية «على أبواب الوعد» في اتحاد الأدباء، وكانت تتمنى في حينه أن تحظى ببعض اهتمامه. وحينما التقته بفايمر في مصادفة مذهلة دعاها للجلوس في مقهى قريب وباح لها بغالبية أسراره، فنفهم أنه متزوج من الفنانة التشكيلية إليانور، وهي امرأة فاتنة جداً، لكنها تعاني من مرض مزمن، وقد نصح الطبيب بإدخالها إلى مصحٍّ للعلاج الطبيعي في مدينة فيسبادن. يدعوها أحمد إلى بيته بعد أن أدرك أنها تحبهُ وتتمنى أن تحتل مساحة صغيرة من حاشية قلبه لكنه حذّرها من السقوط في خانق الوهم فهو لا يريد خِداعها لأن إليانور هي حبه الكبير، «وليس من امرأة تحلُّ مكانها»، ومع ذلك فقد عانقها وقبّلها ليجد نفسه غارقاً ومتورطاً في حُب امرأتين في آنٍ واحد.

ما لم يبح به أحمد لأماني هو طبيعة علاقة إليانور بصديقها الإيطالي لوتشيانو الذي تبيّن أنه يحبها، ويستغل موهبتها، وقد سطا على أفكارها، ونفّذها في لوحة فنية في معرضه الشخصي ببرلين، ثم تزوجها، الأمر الذي دفع أحمد لأن يقترن رسمياً بأماني، خصوصاً بعد أن ترك له صاحب دار النشر في باريس كل ما بحوزته من ثروة وأملاك، لأن زوجته سيمون تخلت عنه وذهبت لتعيش مع أحد رجال الأعمال في جنيف.

سيعترف أحمد بالجنين الذي زرعه في رحم أماني، ولا يجد حرجاً في أن ينسب «جاد» إليه، مثلما سيعترف بأن سيغولين هي ابنته من ليليان التي أحبها في العراق، وكان إخلاصها أكبر من حُبها له.

هنا تتضح شخصية أحمد المزدوجة التي تترجح بين امرأتين، واحدة يحبها ولا يستطيع التخلي عنها رغم أنها تخونه مع لوتشيانو، والثانية يحتاج إليها «كجسد أو كأنيسة في وحدته» وليست كما تحتاج إليه روحاً، وعقلاً، وحضوراً باذخاً، فقد ملّت من دور «العشيقة السريّة» الذي لعبته على مدى سنوات طوال، لكنها اكتشفت أنه ما زال يكذِب عليها، ويلتقي بإليانور سراً، ويزعم أنه يحبها أكثر من زوجته، وقد وجد نفسه فيها، ولم تعد بديلة لأحد، فهي حبيبته، ومعها يشعر بالحرية والرضا.


لم يفلت خيط الحبكة من الكاتبة بدور زكي على مدار النص الروائي القائم على ثيمة محددة وهي «غوايات الوهم» ففي الوقت الذي يقرّ فيه أحمد بالفم الملآن: «أنا الذي أغويتها حين دعوتها إلى بيتي أول مرة»، وحينما تطلب منه اللقاء في مقهى بدلاً عن البيت يعترف قائلاً: «أنا منْ حوّلت وهمها بحبي إلى حقيقة»، ومع ذلك حين تموت إليانور يظل يحبها وكأنها لم تخنه مع لوتشيانو، بل يذهب أبعد من ذلك حينما يؤكد لأماني بالدليل الدامغ «إنني لم أنفصل عنها يوماً» فتتعزز قناعتها الداخلية بأنه يشعر بالأمان معها ولا يحبها.
ما يعمّق ثيمة الرواية هو تلاقحها بآراء الشخصيات الأوروبية مثل الهولندي فان دير نوت الذي يؤمن إيماناً قاطعاً بأن «الحُب ليس عبودية»، وفي موضع آخر يؤكد قناعتها الأساسية بثنائية الحُب والاحتياج حينما يخاطبها قائلاً: «إنه لا يحبك، بل يحتاجك، شيء ما ينقصه وجده عندك، بينما أنت أحببتهِ وكأنّ وحده من تبحثين عنه».

تتفاقم الصراعات النفسية داخل الشخصيات الثلاث فأماني تتصرف وفقاً لردّات الفعل لتنتقم لروحها المدحورة أمام خيانات أحمد وسلسلة أكاذيبه المتواصلة لذلك أحبّت رينيه المعاق الذي نصحها بأن تتخلص من همومها، وتضعها في جيبها المثقوب، لكنها كانت تصغي بإمعان إلى صوتها الداخلي الذي يتناغم مع فكرة الغفران، فلطالما غفر أحمد لإليانور خيانتها لماذا لا تغفر له خياناته وتصدّق أنّ حبها له هو نغم بلانهاية رغم الغوايات التي استدرجت أبطال هذه الرواية الناجحة.