المنطوق ليس شعرا..

العنف اللفظي.. من فعل مستهجن إلى ممارسة مشتركة

العنف اللفظي أصبح ظاهرة اجتماعية مؤرقة

وكالات (لندن)

تؤكد الكثير من البحوث الاجتماعية والنفسية التي تناولت ظاهرة العنف اللفظي والكلام البذيء بالدرس وحاولت فهم أسبابها وطرح تداعياتها أنها لم تعد حكرا على فئة اجتماعية بعينها ولا على فضاءات وأماكن معينة بل إنها باتت تشمل جل الفئات الاجتماعية والعمرية وجل المناطق، فلا يكاد أحدنا يمضي يوما واحدا دون أن يمارس العنف اللفظي أو يكون ضحية له حتى عن طريق مجرد الاستماع لألفاظ نابية في الشارع.

 

اتخذ العنف بأنواعه في المجتمعات العربية نسقا تصاعديا في الانتشار، لا سيما العنف اللفظي الذي يكاد لا يغيب عن المسامع يوميا. ظاهرة اجتماعية مؤرقة غالبا ما تُلقى مسؤولية استفحالها على عاتق جيل الشباب الذي يستعمل الكلام البذيء للتعبير عن ذاته وعن تحرره من القيود الاجتماعية بما فيها الأخلاق. لكن تحميل المسؤولية للأجيال الناشئة وحدها يضمر تنصلا للأسرة والمجتمع من مسؤولياتهما في ذلك، ويدل على إهمال للحيثيات التي تقف وراء ظاهرة تمس مختلف الفئات الاجتماعية.

ويرجع مختصون في علم النفس والاجتماع أسباب لجوء البعض إلى التعبير بعنف وباستعمال ألفاظ بذيئة إلى ضغوط الحياة اليومية التي يعيش تحت وطأتها المواطن بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي باتت تشكل عناصر ضاغطة على حالته النفسية ومزاجه والتي من شأنها أن تخلق حالة من عدم الرضا وتجعله يشعر بالغضب والاحتقان تجاه محيطه ما يدفعه باتجاه العنف في سلوكه وكلامه.

الكلام البذيء يتحول إلى ثقافة

يرى الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد أن العنف اللفظي تحول في المجتمع التونسي إلى “ثقافة” والإقرار بتحوله من فعل مستهجن إلى ثقافة لا يقدم معنى إيجابيا لكن الأدهى انتشارها عند جميع الفئات الاجتماعية، ويعود ذلك إلى خروج العنف اللفظي في التصور الجماعي من مفهوم “العيب” ليصبح ممارسة مشتركة اقتحمت سلوك الأسرة والمدرسة وسلوك المسؤولين على التربية وعلى التأطير الرياضي والمسؤولين السياسيين والنواب.

وتحول العنف اللفظي في المجتمع التونسي إلى طريقة حياة ووسيلة تعبير وأصبح قيمة ثقافية اجتماعية أكثر منه سلوكا معزولا حيث أصبحنا نعبر عن أنفسنا وأفكارنا بشكل عنيف في كل المواضيع والمجالات حتى تلك التي تتطلب عادة اللطف واللين.

وعلى سبيل المثال تجدر الإشارة إلى أن التعبير عن العلاقة مع المرأة والتغزل بجمالها كان في السابق يتم باللجوء إلى مفردات على غرار “قمرة ليلة 14” ووردة وغزالة.. وتغيرت مفردات هذا التعبير اليوم إلى “قنبلة” وطيارة وتقتل و”بقرة”.. حيث تستحضر كل مفردات ودلالات العنف والحرب لوصف الجمال.

وصلنا إلى مرحلة خطيرة تستوجب التعمق في معرفة أصل الظاهرة التي نربطها بعدم المصالحة بين المجتمع ولهجته العامية ولا مع لغته العربية وإلى ارتباط التقدم في ذهن التونسي مع القطع مع كل ما هو موروث.. كما أن الإعلام ومضامين المسلسلات المحلية ساهما في الترويج لبعض المصطلحات والتعبيرات العنيفة.

صراع سياسي سلاحه العنف

إن اللغة والألفاظ والتعابير المستعملة كانت في السابق تحدد حسب المكان بوضع ضوابط وفروق بين لغة المنزل ولغة الشارع وتحدد حسب الجنس بالتمييز بين لغة ومفردات النساء وتلك الخاصة بالرجال وتحدد كذلك حسب السن بالتفرقة بين حديث الكبار وحديث الصغار مع ما يحمله ذلك من احترام وتقدير للأكبر سنا ولضوابط الحوار معه.. لكن اليوم اختلطت وانتفت جميع ضوابط اللغة والحوار والتواصل.

تونس اليوم وفي هذه الظرفية التاريخية الاستثنائية التي تتسم بالعنف والاستقطاب والمناورة والهواية السياسية وضعف الإحساس بالمسؤولية الوطنية، والتي يتسم فيها المشهد السياسي بالتشتت وغياب التواصل بين الأحزاب وحتى داخل الحزب الواحد وانقسام الأحزاب على نفسها وضعف انتشارها الجغرافي تقدم صورة تؤكد ضعف ثقافة التواصل والاتصال لنجد كبديل لها:

- خطابات التشهير حيث أصبح التشهير بالحياة الخاصة جزءا من الثقافة الإعلامية والسياسية لبعض الأطراف، وأصبحت الحياة الخاصة وبالتحديد في جانبها الداكن ملعبا محبذا للسياسيين، ليس من أجل المحاسبة والرقابة على من يديرون الشأن العام، ولكن كأداة من أدوات الصراع السياسي. فبعد أن انتهت مراحل التشكيك في التاريخ النضالي والهوية والانتماء لأطراف ضد أخرى، وبعد استعمال العنف السياسي لإقصاء وترهيب خصوم سياسيين، ها أن اللعبة السياسية تصل اليوم إلى مرحلة “تجارة الفضائح” في إطار حرب مفتوحة كل الأسلحة فيها متاحة حتى ولو كانت تفتقر إلى الحد الأدنى من الشجاعة والبعد الأخلاقي. حرب يجند في إطارها أرشيف على ملك الدولة وأطراف مأجورة في الشبكات الاجتماعية ووسائل إعلام وصحفيون ومدونون وسياسيون.. الغاية من وراء كل ذلك هو إلحاق أكبر ضرر بالخصم السياسي وهزمه سياسيا وأخلاقيا ليفقد شرعيته ومشروعيته وثقة الرأي العام.

- اللغة الشعبوية: التي تتاجر بآلام وأوجاع وغرائز الناس والقائمة على الوعود الزائفة التي ربما تساعد في الفوز بالانتخابات لكنها سرعان ما تتهاوى على أرض الواقع بعد أن يتم اكتشاف المغالطة.

- اللغة الأيديولوجية: وهي لغة لا يقبل عليها التونسي كثيرا باعتبار تراجع عصر الأيديولوجيات في القرن 21 وباعتبار أن مزاج التونسي المنفتح والإصلاحي ينفر من الخطابات الثورية الحادة والراديكالية.

- لغة الاستقطاب والتخوين: وهي لغة أثبتت تهافتها وسذاجتها بشكل أصبح مقززا ومنفرا للتونسي.

توجه الفرد إلى عالمه الشخصي والاستفادة من الحرية، مهدا الطريق أمام مظاهر العنف اللفظي

لا يجب تحميل المسؤولية في انتفاء الضوابط الأخلاقية وحدود التعبير في كنف الاحترام للجيل الجديد بل إلى العائلة وإلى المجتمع ككل الذي ساهم في انتفاء هذه المحددات القيمية تحت غطاء التحرر وفتح باب الحوار دون الإشارة إلى أن الحوار وحرية التعبير لا يعنيان رفع الكلفة وأن الانفتاح لا يعني غياب الضوابط.

مؤشر على اختلال قيمي

المجتمع الجزائري بدوره ليس بمعزل عن تفشي ظاهرة العنف اللفظي الذي ينتقل من الأسرة إلى الطفل والمراهق وبالتالي يصل إلى المدرسة وإلى جل الفضاءات العمومية. وهو ما يرجعه مختصون إلى انحدار في الجانب القيمي وتراجع في الأخلاق العامة بسب النزوع نحو الفردانية واتساع هامش الحريات الفردية.

ويرى المختص في علم الاجتماع الوردي بوكراع، في اتصال لـ”العرب” أن “العنف اللفظي والكلام البذيء أخذا منحنيات خطيرة في المجتمع الجزائري، فلم يعودا مقتصرين على محيطات معينة، بل وصلا إلى الشارع والمدرسة وحتى للأسرة، وفي الأماكن العامة”.

ولفت إلى أن “الأسباب معقدة ومتشابكة، وتعود في المجمل إلى تقلص هامش الأخلاق والوازع الديني في المجتمع، فضلا عن النزوع نحو الفردانية، حيث تراجعت سلطة الأنا الجمعي لصالح الأنا الفردي، ما أفرز انزلاقا خطيرا تجلى في تغير لغة الخطاب والتواصل”.

وأفاد أن توجه الفرد إلى صناعة عالمه الشخصي والاستفادة من الحرية الذاتية، مهدا الطريق أمام بروز مظاهر العنف اللفظي والكلام البذيء، لأنه لم يعد هناك حواجز تحول دون إنتاج مثل هذه الأساليب في الخطاب والتواصل بين الأفراد.

وذكر بأن “لجوء الوالدين إلى تبادل الكلام البذيء أو ممارسة العنف المتبادل أو على الأطفال، سينقل العدوى دون شك لهؤلاء الصغار، وإذا قلنا الأسرة فإن الأمر ينسحب على المدرسة ومن ثم الشباب والمراهقين”.

وباتت الظاهرة بحسب المتحدث، مرادفا للفساد والانحلال الأخلاقي المستشري في المجتمع، حيث تؤشر على اختلال القيم، في ظل توجه النخبة الواعية نحو العزلة والانطواء، تفاديا للصدام مع موجة العنف اللفظي والكلام البذيء التي اجتاحت مختلف الفضاءات الاجتماعية والعمومية.