إيطاليا تحتفي بالذكرى الـ110 لميلاد أحد أبرز كتابها..

بافيزي... شاعر الفاجعة الإنسانية

تشيزارا بافيزي

وكالات (لندن)
تحتفل الأوساط الثقافية الإيطالية بالذكرى الـ110 على ميلاد الكاتب والشاعر تشيزارا بافيزي، الذي يعتبر واحداً من أهم كتّاب وشعراء إيطاليا في القرن العشرين، على الرغم من أن شهرته تضاعفت بعد موته. كانت مسيرته متنوعة وغنيّة على الرغم من أن حياته كانت قصيرة نسبياً؛ فقد جعل من حركة الشعر الحديث خلاصة فنية لكل الحركات التي سبقته، وطليعة متميزة لمن أتوا بعده، كما جعل من قضية الموت في كل نتاجاته الروائية والشعرية معادلاً للحياة، عكس من خلالها تمزق الإنسان.

وظل بافيزي متوارياً وراء قصيدته، يتفيأ في ظل الموت الذي كان يرتقبه ويحاوره، ويحمله بداخل روحه حتى لحظة المواجهة الدموية التي جسدها في انتحاره عام 1950 في غرفة بأحد فنادق مدينة تورينو بشمال إيطاليا.

عاش بافيزي السنوات المضطربة التي شهدت أوج نهاية أحد أبرز الأنظمة الديكتاتورية في العالم، والتي تحكمت في مصير إيطاليا طيلة عشرين عاماً، كما شهدت إيطاليا في تلك الفترة هزيمتها القاسية في الحرب العالمية الثانية، فحملت تلك الأحداث زمن الشاعر مأسوراً بالغضب والخوف حتى أصبح الموت مصير كل شيء، ومبدأ كل شيء. وقد تجسد ذلك في كيانه كله وكلماته.

في بلدة سانتو ستيفانو بلبو في منطقة لانكا بمقاطعة بيومونتا الشمالية التي شكلت لحمة قصائده ورواياته، بدأ منذ مطلع شبابه يتردد إلى الأندية الفكرية التي كانت آنذاك مركزاً ثقافياً وسياسياً مرموقاً، حيث كان عدد من المثقفين قد أسسوا مجلة «الثقافة»، التي ساهمت في إعادة الأدب إلى أتون الحياة، فشهد حركة دائمة من التحول باتجاه سيطرة الإنسان الإيطالي على مصيره أمام واقع التفتت الذي أحدثته الهزائم المتتالية على الواقع الإيطالي.

تخرج بافيزي في كلية الآداب بمدينة تورينو، وانصبّ اهتمامه في اكتشاف الأدب الأميركي، فراح يترجم كتباً كثيرة لأدباء وشعراء أميركيين رأى فيهم قدراً كبيراً ومتميزاً في وضوح الرؤية، وأكثر أصالة وصلة بالتراث الثقافي الأوروبي، وكان لترجمة رواية «موبي ديك» للكاتب الشهير هيرمان ميلفيل، تأثيرها الكبير على إحساسه الداخلي بضرورة الخلق والتجديد من أجل مواكبة حركة الأدب العالمي، كما أن تأثير تلك الترجمات انعكس في أول مؤلفاته الروائية «العمل المتعب»، التي أصدرها عام 1936 والتي دخل من خلالها إلى عوالم النفس البشرية ومفارقاتها الحياتية والفنية ضمن أجواء المواجهة اليومية للشرائح الاجتماعية الفقيرة مع العالم الخارجي.

ارتقى بافيزي بمواقفه الشعرية التي استمد طاقتها الإيحائية والتعبيرية من خلال عملية اعتقاله من قبل قوات الحرس الفاشي عام 1935، حيث أرسل حينذاك إلى أحد السجون التي تقع في إقليم كالابريا الجنوبي مع مجموعة من زملاء له في مجلة «الثقافة»، فكان ذلك بمثابة الحدث الذي جعله يتفتح إلى أقصى حد بقواه الخاصة ووسائله التعبيرية، وفي تأكيده على أن العمل الثقافي هو أحد الحلول التي يبتكرها الإنسان لمشكلاته.

وقد كتب بعد هذه التجربة، روايته الطويلة «السجن» ما بين عام 35 - 1936 التي نشرت بعد سنوات كثيرة في مجلده الذي حمل عنوان «قبل أن يصيح الديك»، والذي ضم أيضاً روايته الشهيرة «البيت على الهضبة». تعبر رواية «السجن» عن عذاب التجربة للحد الذي أصبحت فيه رمزاً لمصير البشر. وبدا فيها بافيزي نفسه وكأنه مسؤول عن كشف الرعب الحقيقي الذي يصيب الإنسان الذي يقع تحت سلطة القهر، كما أنها مثّلت دعوة أولى يوجهها الأديب لنفسه وإلى الآخرين كي يخرجوا من عزلتهم وأن يتحرروا من النظرة العدمية. «السجن» عند بافيزي ليس هو الجدران التي تحصر الإنسان بداخلها، بل هو مزيج من صور الهجرة الداخلية التي تتسم بالعدمية، وهو التسكع الداخلي الذي تجابهه الصرخة الإنسانية بين الحين والآخر من أجل فضح أبعاد الفاجعة الإنسانية. وهي ومن جانب آخر مطالبة بتحري جوهر الفاجعة الإنسانية لحمل المثقف على تجاوز الهزائم والقدرة على الاحتجاج على كافة مخططات التصفية والمساومة على الأرض التي يرقد فيها.

عام 1936 صدر عفو عن بافيزي من قبل الحكومة الفاشية للمدة المتبقية من محكوميته، إلا أنه استشف من تجربة السجن المريرة، التي أكسبته وعياً سياسياً، واقع الهزيمة السياسية التي كانت بلاده تعاني منها، كما أن فشله في تجربة حب قاسية جعلته يتردد ويشك ويذعن للخيبة في حياته، فانصرف بعدها كلياً إلى عمله الأدبي لائذاً بنفسه وكأنه بطل يموت كل يوم ثلاث مرات بكبريائه وندمه وحزن قلبه.

عام 1939 كتب روايته القصيرة «قراك»، وهي أول كتاب له تم تسليمه للطباعة في عام 1941 وإن لم يكن أول كتاب ألفه كما ورد سابقاً، إلا أن هذا العمل الروائي واجه انتقادات لاذعة نظراً لقساوة موضوع الرواية وأسلوبها، كما وصف هذا العمل الروائي بأنه تتابعات شكلية يدل بعضها على بعض، وتقود القارئ لمعرفة الأبعاد النفسية لنموذج البرجوازي المتردد، وأجمع النقاد في حينها على أن الرواية هي تقليد للأساليب الأميركية وهي تتجه الاتجاه ذاته الذي يكاد يجمع جميع أعمال بافيزي بتصوير التباين القائم بين الريف وعوالمه السحرية الذي يمثل حالة ارتجاع للذاكرة عند المؤلف، وبين عالم المدينة الموحش الذي تسوده الغرائز المكبوتة. والرواية في النهاية ترسم الخط الفاصل بين اللحظات الراهنة والتاريخ، حين يتحول الحاضر إلى وحش يحاول افتراس ذاكرة الإنسان.

وقد كتب بافيزي في الفترة نفسها رواية أخرى قصيرة أسماها «الصيف الجميل»، ولم ينشرها إلا بعد عشر سنوات مع روايتين كتبهما في فترتين مختلفتين، وهما «الشيطان على الهضاب» و«بين نساء وحيدات»، وقد اعتبر النقاد أن هذه الأعمال تشكل ثلاثية يدخل بافيزي من خلالها عتبة العالم من أجل التجانس والتماثل، إلا أن بافيزي رد على منتقديه موضحاً أن رواياته لا تعدو أن تكون محوراً للتجارب التي تتعرض لها الشبيبة في الوقوع بالمتاهات التي يخلقها الواقع الاجتماعي ثم الميل والانجراف إلى الشهوة التي تظهر بعض الأحيان كحاجة غير سليمة تتجاوز الأصول؛ مما يؤدي ذلك إلى عواقب الوقوع في سجن العقوبة الاجتماعية المرتقبة والتي تقع عادة على الشبيبة الأصغر سنا في التجارب.

وقد كتب بافيزي رواية «الشاطئ» عام 1942 وقصص «عطلة أغسطس»، التي صدرت عام 1946، وهي تحكي قصة الطفولة وتعالج قضايا مختلفة وتحمل إرهاصات الواقعية الإيطالية التي تربت في أحضان الرومانسية الفرنسية، كما تعكس غربة الكاتب عن عالمه وقومه ومجتمعه الذي يغزى ويسلب فلا ينتمي له أحد، وهذه هي حالة البرجوازي الإيطالي الذي وجد من الصعب الائتلاف والتلاؤم مع الواقع الذي لا يقر له بمطامحه، ولا يحترم نزواته، فخرج على هذا الواقع من أجل تقويضه.

وكتب بافيزي رواية «الرفيق» عام 1947 تحت تأثير انتمائه للحزب الشيوعي الإيطالي، والذي حاول من خلاله أن يخرج من انكماشه الداخلي، إلا أن الرواية لم تلق أي نجاح، بل إن رفاقه في الحزب اتهموه بالانحطاط والتردي؛ مما سبب له أسى كبيراً، إضافة إلى أساه الذي حمله في داخل نفسه.

وقبل أن يختتم بافيزي حياته، كتب روايته «القمر ونار الحطب» عام 1950، والتي تحكي قصة الحرب والعنف والحنين إلى الموت والذي ينبعث عنده من الغضب والاستسلام وشيخوخة الروح في صباها، كما تستعرض الرواية التباين بين الريف والمدينة، وهو الموضوع الذي ظل عزيزاً إلى قلبه. والرواية التي يعتبرها البعض أهم روايات بافيزي تحمل حنينه للموت الذي يأتي كرد فعل يرتبط بمصيره الشخصي على أنه النهاية التي كان ينتظرها بافيزي كقدر يتوج به حياته وتوقف زمنه.

أما شعره، فقد اتسم بالقصصية والغنائية الحزينة التي تقوم على مزيج من الإيقاع الخارجي المتمثل ببناء الحكاية وأسلوب عرضها، وداخلي يتمثل بصوت العاطفة المفجع، كما تتصف معظم قصائده بالإيقاع العالي ولو أنها تتبع في الغالب أسلوب «الحكواتي» السردي الذي يصاحبه الحوار والترميز، وقصيدة «الشبح» هي نموذج واضح، كما أنها تمتاز بقوة البناء اللغوي. وتكتسب جدتها من داخل موضوعها ومن خلال قدرتها على التعبير بالصور كافة. وقد سهل ذلك قدرته الروائية وحجم اطلاعه على حركة الشعر العالمي؛ مما جعل قصيدته مركزة ومكتنزة وبعيدة عن الترهل، وغير مثقلة بالصفات والتعابير الجاهزة، كما هو الحال عند بعض الشعراء الإيطاليين المعاصرين.



من شعر بافيزي

(إلى.. ت)

وأنت الحب أيضاً

وإنك في الدم والتراب

كالآخرين تسيرين

كمن لا ينفصل عن باب منزله

وتنظرين كمن يترقب

لكنه لا يرى.. أنت من التراب

يتألم بصمت

ترتعشين وتتعبين

ولديك كلام.. تسيرين

مترقبة.. والحب

هو دمك..لا سواه



(ترويض)

في الفجر تبدأ الأعمال، لكننا قبيل ذلك نلتقي بأنفسنا

الناس قاطعوا الطرقات، كل يتذكر وحدته وتعاسته

مكتشفاً ندرة المارين، كل يحلم مع نفسه، يعلم كيف تضئ العيون



في الفجر

حين يأتي الصباح تجد الدهشة؛ إذ تتوقف الأعمال

لكننا لسنا بعد وحيدين، ولا أحد يرهقه النعاس

بهدوء نتأمل إشكالات النهار حتى تولد الابتسامات

في عودة الشمس كلنا مقتنعون، ومرات هناك أفكار أقل وضوحاً

«سخرية» تفاجئنا، ونعاود تحدينا لها

لدى الشغيلة والمتهكمين تجد المدن الصافية، لا شيء يحير الصباح

كل شيء يمكنه الحدوث، ويكفي الانتباه إليه أثناء العمل

الصبايا الهاربات لا ينجزن شيئاً، يقطعن الطرقات

وأخريات يركضن، أوراق الساحات العامرة بالأشجار

تملأ الشوارع ظلالاً، والأعشاب بين البيوت ثابتة

على ضفاف الأنهار ينهار الفيء تحت الشمس

المدينة تجعلنا نرفع الرؤوس

ونفكر، وهي تدري خضوعنا إليها.