الفتنة التي لا تنام..

خطيئة التصفيق لسلاطين يهاجمون التطرف

الكاتب المصري بلال فضل

بلال فضل (القاهرة)

لم يكن المؤرخ والفقيه ابن جرير الطبري يعلم أن رأيه البسيط الذي وصف به سلفه الإمام أحمد بن حنبل سيجلب له كل ذلك الغضب والكراهية والتكفير، لدرجة أنه حين وافته المنية بعد اشتداد الهجوم عليه، تم دفنه ليلاً في داره، «لأن العامة اجتمعت ومنعت دفنه نهاراً وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى يقول: والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه». 
يروي المؤرخ ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» هذه الواقعة معلقاً: «وحاشى ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء»، ومؤكداً أن من تعصبوا لمنع دفنه كانوا بعض الحنابلة ثم تبعهم غيرهم، ثم يروي بعد ذلك وقائع الجريمة التي ارتكبها الطبري ليستحق كل تلك الكراهية، والتي لم تكن سوى أنه قام بتأليف كتاب تحدث فيه عن الفقهاء، لكنه لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فلما سئل عن سر ذلك قال: لأنه لم يكن فقيهاً وإنما كان محدّثاً، «فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا». وبعد أن يروي ابن الأثير بعض مناقب الطبري ويشيد بكتابه المشهور «في تاريخ الأمم والملوك» وبتفسيره «الذي لم يصنف مثله»، يذكر أن الحنابلة كانوا يمنعون طلبة العلم من الدخول عليه، وأنهم ظلموه مع أنه «ليس أعلم على أديم الأرض منه»، وأن مشكلته تتلخص في ما وصفه الفرغاني بأنه «كان ممن لا يأخذه في الله لومة لائم.. مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد». 
لكن الطبري كان رغم كل شيء أسعد حظاً من المتصوف والعلامة والشاعر الحسين بن منصور الحلاج، الذي لقي مصيراً مؤلماً في السنة التي سبقت رحيل الطبري، فقد تم ـ كما يروي ابن الأثير ـ ضربه ألف سوط ثم قطعت يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قُتِل وأحرق بالنار، فلما صار رماداً ألقي في دجلة ونصب رأسه ببغداد، رغم أنه أنكر ادعاء الربوبية والنبوة، ولم يفده في شيء قوله لقاتليه «إنما أنا رجل أعبد الله عز وجل… ما يحل لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ولي فيها كتب موجودة فالله الله في دمي». 
لم يدرك الذين باركوا قتل الحلاج وتسامحوا مع اضطهاد الطبري، رغم ما بينهما من اختلافات، أن التسامح مع المتشددين يؤدي دائماً إلى ما هو أنكى وأضل، ولذلك استمرت سيطرة المتطرفين من الحنابلة على الساحة خلال العقد التالي، حتى وصلت إلى ما يسميه ابن الأثير بـ«فتنة الحنابلة في بغداد» التي وقعت عام 323 هجرية، بعد أن «عَظُم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم»، فلم يعودوا يقصرون بطشهم وتدخلهم في الحياة الشخصية على العامة، بل امتد أثرهم إلى القادة والكبراء، فقاموا بمداهمة بيوتهم، فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنياً ضربوه وكسروا آلة الغناء، ولاحقوا الرجال الماشين مع النساء والصبيان لسؤالهم عن طبيعة علاقتهم بهم، ليضربوا من يمتنع عن الإجابة، ويحملوه إلى صاحب الشرطة بتهمة الفاحشة، ولأن ذلك الأذى طال الكبراء وأصحاب النفوذ، فقد اضطرت السلطة للتدخل، ولكن بعد فوات الأوان، حيث ركب بدر الخرشني صاحب الشرطة ونادى في جانبي بغداد ألا يجتمع من الحنابلة اثنان، ولا يناظرون في مذهبهم، «فلم يفد فيهم وزاد شرهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون في المساجد، وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت». 
وحين تفاقم بطش الحنابلة بخصومهم، اضطر الخليفة الراضي بالله إلى إصدار مرسوم يقسم بالله «قسماً يلزم الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوِّج طريقتكم ليوسعنكم ضرباً وتشريداً وقتلاً وتبديداً، وليستعملن السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالكم»، ولم يكتف مرسوم الخليفة بذلك التهديد، بل قام باستنكار معتقدات الحنابلة وأفكارهم مستخدماً في ذلك أقوى الألفاظ كقوله: «إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته… ثم طعنكم على خيار الأئمة ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكفر والضلال، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن. وإنكاركم زيارة قبور الأئمة وتشنيعكم على زوارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام، ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله، وتأمرون بزيارته وتعدون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، فلعن الله شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات وما أغواه». 
لم يكن ما فعله الخليفة الراضي خالصاً لوجه الله والدين، فقد كان يعاني في ذلك العام من أزمات داخلية، جعلته يقبض على محمد والمظفر ابني ياقوت أكبر منافسي وزيره ابن مقلة، بعد أن كان محمد بن ياقوت «يتحكم في المملكة بأسرها وهو ليس له حكم في شيء»، وفي ظل صراعات عنيفة على السلطة، قام الراضي بتقليد ولديه أبي جعفر وأبي الفضل ناحيتي المشرق والمغرب، في الوقت الذي كانت تعاني فيه خراسان من غلاء شديد جعل كثيراً من أهلها يموتون من الجوع، فيعجز الناس عن دفن الغرباء والفقراء منهم، ثم حدث بعدها شغب للجنود في بغداد، فقاموا بنقب دار الوزير ابن مقلة واحتلالها، فهرب الوزير وابنه، ولم يعودا إليها إلا بعد كثير من المناوشات، وتم اتهام بعض أصحاب محمد بن ياقوت بإثارة الشغب، خصوصاً بعد أن مات داخل سجنه في ظروف غامضة، وشهد الأطباء بأنه لم يتعرض للضرب ولا للسم، وفي ظل كل تلك الاضطرابات لم يكن الراضي مستعداً لتحمل تصاعد نفوذ الحنابلة، الذي أصبح يثير ضيق كبراء البلاد، الراغبين في الاستمتاع بحرياتهم الشخصية، ولذلك قام بقمع الحنابلة لكي يستعيد مواطنوه حريتهم الشخصية، فيساندوه في معاركه، وبالطبع فرح الذين عانوا من بطش غلاة الحنابلة، بما تصوروا أنه انتصار على أفكارهم المتطرفة، قبل أن تحمل الأيام المقبلة عودة أعتى للمتطرفين، واستغلالاً جديداً من السلطة لهم. 
لا تجدي كلمة (لو) في تغيير مسار التاريخ، لكنها ربما تفيد في تأمله، ولذلك ربما لو أدرك أهل ذلك الزمان أن السكوت على قتل الحلاج، قاد إلى السكوت على إهانة الطبري، وربما لو وجد قاتل الحلاج من يعارضه، لما سهل على المتطرفين تكفير الطبري، ولما وقعت البلاد أسراً للمتطرفين، حتى تنتهي حاجة السلطان إليهم، فيقوم بقمعهم، إلى أن يأتي سلطان جديد يستغلهم، فيعيثوا في الأرض بطشاً من جديد، ثم يتخلص منهم حين يزداد توحشهم، فيسود في البلاد التوهم بأنها تخلصت من جنون التطرف، وتحرم من فرصة مواجهة أزماتها وعيوبها بشكل سليم، يعالج الجذور لا القشور، ويقوده أهل الفكر والرأي، لا أهل السلطة والبطش، ثم يستغرب أهلها حين تصعد الأفكار المتطرفة من جديد بشكل أكثر توحشاً، فيدركون بعد فوات الأوان خطأ مواجهة التطرف بالبطش، وخطيئة التصفيق لسلاطين يهاجمون التطرف فقط من أجل مصالحهم وبقائهم على الكرسي. 

ـ «الكامل في التاريخ» لابن الأثير ـ المجلد السابع ـ طبعة دار الكتب العلمية مراجعة محمد يوسف الدقاق

٭ كاتب مصري