كأحد أجنحة الإسلام السياسي..

مقتدى الصدر.. وإغراءات السلطة الكاريزمية

مقتدى الصدر

ناجح العبيدي

لا أحد يسمع عن حسن العاقولي على الرغم من أنه رسمياً رئيس قائمة "سائرون" الفائزة بالانتخابات العراقية، بينما يملأ مقتدى الصدر منذ الإعلان عن النتائج الدنيا ويشغل الإعلام بتغريداته وتصريحاته ولقاءاته مع رؤوساء الكتل الأخرى واستقباله سفراء دول مجاورة. الأول حاز على أعلى الأصوات عن محافظة النجف ويترأس نظرياً أقوى كتلة بمفردها، بينما لم يحصل الثاني على أي صوت لأنه لم يترشح أصلاً للانتخابات ولا يجد ضرورة لذلك. لا يبدو أن الصدر يعير أهمية كبيرة للشرعية الديمقراطية فيما يخص دوره السياسي، طالما أنه يتمتع بشرعية أهم بحسب وجهة نظره، ألا وهو ميراث عائلة الصدر الذي ينتسب إليه أبرز ممثلي الجناح العراقي (العربي) في المرجعية الشيعية ودفعت ثمناً باهظاً في مقارعة النظام الديكتاتوري السابق. اليوم يسعى سليل العائلة لتتويج هذا الميراث على شكل نفوذ يجمع بين السياسة والدين والاقتصاد ويشمل الشارع والبرلمان والسلطة التنفيذية.

من الواضح أن مجيء قائمة سائرون في المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية 2018 يوفر غطاء "ديمقراطياً" و"شرعياً" لتحرك الصدر ولدوره القادم. صحيح إن القائمة لم تفز سوى بـ 16,5 % من الأصوات ولا يمكن بالتالي الحديث عن كتلة كبيرة قادرة لوحدها على خوض مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، إلاّ أن زعيم التيار الصدري يرى في فوزها المفاجئ فرصة تاريخية نادرة للإسهام في رسم الاصطفافات السياسية والتحكم بمفاصل اتخاذ القرار والسلطة على مدى السنوات الأربع القادمة، وربما إلى أبعد من ذلك. والسؤال الحاسم الآن: ما هي تصوراته عن طبيعة إدارة الدولة والنظام السياسي التي يريدها للعراق؟ وكيف ستكون عملية اتخاذ القرار لو أصبح رجل الدين الشيعي عراب العملية السياسية؟

ليس الشعارات إنما إدارة التيار

لمعرفة أسلوب الصدر المتوقع في ممارسة السلطة وإضفاء المشروعية عليه لا يمكن الركون بالدرجة الأولى، وكما يفعل كثيرون وخاصة في اليسار العراقي، إلى خطابه السياسي الشعبوي أو تحالفاته التكتيكية وشعاراته الغامضة التي تهدف قبل كل شيء لتسهيل وصوله إلى السلطة. ليس المهم شعارت "الدولة الأبوية" أو "حكومة تكنوقراط" أو "استقلال القرار العراقي" أو "كلا للفساد" و"كلا، كلا أمريكا" و"شلع قلع" والتي يملك الصدر في نهاية المطاف المرجعية الأخيرة في تفسيرها ويُغيرها بحسب الظروف. الأهم من ذلك هو أسلوب الصدر في قيادة وإدارة تياره منذ 2003 وقائمة سائرون في الأسابيع الأخيرة.

هناك توصيفات عديدة تطلق على سائرون. يصفها مؤيدوها الإسلاميون والعلمانيون بأنها قائمة وطنية عابرة للطوائف أو تحالف المحرومين والمحتجين والغاضبين أو التيار المدني الإصلاحي الرافض للمحاصصة وغيرها. تكمن مشكلة هذه التوصيفات في أنها تحاول أن تميّز القائمة عن غيرها من خلال افتراض وجود قاعدة شعبية وهوية طبقية واجتماعية خاصة بها. أقل ما يقال عن هذا التحليل هو إنه تعسفي ويستند إلى مفاهيم نظرية مجردة بدلاً من الإستعانة ببيانات ودراسات اجتماعية ملموسة. كما أنه يتجاهل إلى حد بعيد الطابع الديني للتيار الصدري والدور الخاص الذي يلعبه زعيمه.

إن أهم ما يميز التيار الصدري (وبالتالي تحالف سائرون) هو أنه حركة كاريزمية بامتياز، أي أن اسمها ومصيرها ونجاحها يرتبط بشكل وثيق بزعيمها ومرشدها الروحي رجل الدين مقتدى الصدر. يعود الفضل في الاهتمام بدور الكاريزما في النظم السياسية إلى رائد علم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920). وفقا لإدعاء المشروعية الخاصة بكل نمط، فرّق فيبر بين ثلاثة أنماط للسلطة: السلطة العقلانية والسلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية. جميعها يكتسب صفة المشروعية ويحتاج إليها بالاستناد إلى مفهوم فيبر للسلطة. لقد عرّف فيبر السلطة (أو بالأحرى الإمارة بالمفهوم الخلدوني) بأنها الإمكانية لشخص أو هيئة ما لإصدار الأوامر وأن تحظى هذه الأوامر بالطاعة من قبل مجموعة من البشر. لم يركزّ فيبر على الطابع الاجتماعي والطبقي للسلطة، وإنما لخّص جوهرها بأنها علاقة بين السيد والتابع (الحاكم والمحكوم) تقوم على نظام الأمر والطاعة. غير أن الدافع للانقياد للأوامر يختلف باختلاف أنواع السلطة. فإذا كانت السلطة العقلانية (بغض النظر إن كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية) تكتسب مشروعيتها من خلال وجود لائحة أو قانون ينظم العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، تقوم السلطة التقليدية على التمسك بالتقاليد والقواعد والقيم المتوارثة، كما هو الحال في مختار القرية أو شيخ العشيرة أو الإقطاعي. أما السلطة الكاريزمية فإن سر نجاحها يعتمد قبل كل شيء على الخصائص الاستثنائية الحقيقية أو المفترضة للقائد الملهم وإيمان التابعين بها وإذعانهم لأوامره. وفيما يشير فيبر إلى التعريف الديني الأصلي للكاريزما باعتبارها "هبة ربانية"، فإن الزعماء الكاريزميين يمكن أن يظهروا على شكل أبطال حروب او رجال دين تحيط بهم هالة القداسة أو سياسيين شعبويين (ديماغوجيين). لم يقصد فيبر بالكاريزما موهبة القائد وصفاته الشخصية وهيبته وشعبيته فقط، وإنما بالدرجة الأولى طبيعة العلاقة الاجتماعية بين القائد وجمهور التابعين. في هذه العلاقة لا يقبل القائد (السيد) من الأتباع والأنصار سوى الولاء والخضوع التام لسلطته والإذعان لأوامره. في المقابل يبدى هذا الجمهور بالذات (وليس بالضرورة أغلبية المجتمع) حماسا منقطعا النظير للزعيم وإيماناً مطلقاً بقدراته وخوارقه، على الرغم من أنه قد يعاني من مشاكل شخصية وعقد نفسية ونقص في بعض المؤهلات. هذا ما يحدث عادة في مرحلة تفاقم الأزمة عندما يزداد الاستعداد لتصديق الوعود بالحلول السحرية والسريعة التي يُبشر بها السيد. كثيراً ما يصب نمط السلطة الكاريزمية في العصر الحديث في إقامة أنظمة استبدادية، كما حصل مع لينين وستالين وهتلر وموسيليني وماوتسي تونغ وفيدل كاسترو، بينما وظّف نيلسون مانديلا كاريزميته لإرساء أول تجربة ديمقراطية يعتد بها في القارة الإفريقية. من نافلة القول طبعاً إن الأنماط الثلاثة المذكورة للسلطة - كما يؤكد فيبر نفسه - لا توجد بأشكالها الخالصة. كما أن نجاح أي سياسي في أي نمط يتطلب بهذا القدر أو ذاك تمتعه بصفات كاريزمية، بمعنى القدرة على التأثير على الجمهور. ولكن الكاريزمية يمكن أن تقود إلى مأزق تاريخي عندما تصبح المبدأ الأساس لحركة أو تنظيم معين يريد فرض تصوراته الراديكالية على المجتمع.

كاريزما بلا صفة رسمية

تكفي متابعة بسيطة لما يحدث في التيار الصدري وما يُنشر على مواقعه في وسائل التواصل الاجتماعي وطريقة اتخاذ الأوامر للاستنتاج بأن مفهوم ماكس فيبر للسلطة الكاريزمية يجد هنا أحد تجلياته الواضحة. بمجرد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات بدأ مقتدى الصدر تحركات واسعة باسم قائمة سائرون على الرغم من أنه لا يملك أي صفة رسمية فيها. في المقابل التزم "الأتباع" على كل المستويات الصمت، بمن فيهم حسن العاقولي رئيس حزب الاستقامة الذي فاز لوحده بـ 50 مقعداً من أصل 54 لسائرون. هنا اتضح للجميع مَنْ يملك الكلمة الأولى والأخيرة في التحالف. لم يأتِ هذه السلوك صدفة وإنما استمراراً لتقاليد راسخة في التيار الصدري والتي تطغى أيضاً على خطابه السياسي.

كان من المتوقع أن يتردد رجال العهد الجديد بعد 2003 في استخدام لقب "القائد" بعدما أصر صدام حسين طيلة عقود على تسمية نفسه بـ"القائد الضرورة (حفظه الله)". لكن التيار الصدري لم يكترث لذلك وأطلق على زعيمه لقباً مشابهاً هو "سماحة القائد (أعزه الله)". وكما هو حال الأحزاب الكاريزمية بحسب مفهوم ماكس فيبر يمسك القائد لوحده بزمام الأمور، وما على التابعين، بمن فيهم أهل الثقة والمقربون والمساعدون، سوى الولاء والإذعان لأوامر السيد. هذا ما يراه التيار الصدري نفسه شرطاً للنجاح. في مقال حديث بعنوان "الضمان" منشور على موقع المكتب الخاص بمقتدى الصدر يخاطب الكاتب صالح محمد صالح جمهور التيار بأن أهم شروط انتخاب المرشحين في الانتخابات هي أولا الثقة بالقائد وثانياً الالتزام بأسلوب "الكصكوصة" ، أي انفراد القائد بالقرار والسرعة في اتخاذه دون استشارة أحد. يفتخر الصدر نفسه بأنه يستطيع " بـكصكوصة أن يسحب تياره من العملية السياسية ويأمر وزراءه بالتخلي عن مناصبهم " وأنه قادر عبر كتابة أمر على ورقة صغيرة على متابعة ومحاسبة هؤلاء الوزراء، بينما تعجز القوى الأخرى عن ذلك. وبالفعل أقدم الصدر بجرة قلم على حل كتلة الأحرار قبيل الانتخابات وألزم أعضاءها بعدم الترشح مرة أخرى دون أن تظهر اعتراضات جدية من قبلهم. صحيح أنه يحق للتيار الصدري أن يفتخر بأنه سبق الجميع في اعتماد أسلوب الانتخابات التمهيدية في القواعد لاختيار المرشحين في انتخابات 2010 و2014، إلا أن هذه التجربة الديمقراطية الداخلية لم يكتب لها الاستمرار في ظل ترسّخ سلطة القائد وتحوله إلى العنوان الأبرز للشرعية في داخل التيار.

لا يتخذ القائد الملهم أخطر القرارات بمفرده فحسب، وإنما يستطيع تغييرها دون حاجة للتبرير أمام الأتباع أو الرأي العام. يمكنه أن يعلن فجأة حل ميليشيا جيش المهدي، ثم يعود بعد أشهر قليلة ويقرر تحويلها إلى سرايا السلام التي تتعرض بدورها للحل رسمياً أو تعليق نشاطها عدة مرات. لكن كل ذلك لا يمنع من القول لاحقاً بأنها مستعدة دائما للدفاع عن المقدسات. من جهة أخرى تتولى لجنة محاربة الفساد في مكتب السيد استدعاء العشرات من المتهمين بالفساد والتحقيق معهم و"معاقبتهم" أو "تبرئتهم" والإعلان عن ذلك على موقع المكتب لإثبات جدية التيار الصدري في مكافحة الفساد دون أي اعتبار لقانونية مثل هذه الإجراءات. صحيح أن المعنيين هم أعضاء في التيار الصدري الذي يحق له بالتالي اتخاذ إجراءات انضباطية بحقهم، غير أن هذه اللجنة لا يمكن تحت أي مبرر أن تحل محل القضاء العراقي و"تحاكم" متهمين بقضايا جنائية.

دور صانع الملوك

لم يؤثر هذا السلوك والقرارات الارتجالية المتناقضة على شعبية التيار الصدري وهيبة الزعيم وسط أنصاره وولائهم له، بل على العكس. جاءت نتائج الانتخابات 2018 لتسجل عودة قوية لمقتدى الصدر الذي أصبح "صانع الملوك" بحسب وصف الكثيرين. كيف يمكن تفسير الفوز المفاجئ لقائمة سائرون وما هي التداعيات المتوقعة لذلك؟. من المؤكد أن تزعّم التيار الصدري للحراك الجماهيري الاحتجاجي ضد الفساد والمحاصصة ساهم في استقطاب المزيد من أصوات الناخبين المستائين من أداء النخب السياسية المتنفذة. لكن يأس الكثيرين من إصلاح الأوضاع القائمة وتعثر عملية مكافحة الفساد والشعور بالغبن وانعدام العدالة في توزيع الثروة أدى إلى اتساع الاستعداد لتقبل الخطاب الشعبوي للتيار الصدري أملا بحل سريع للأزمة المتفاقمة. من جانب آخر جاء تدني نسبة المشاركة في الانتخابات في صالح الصدريين في ضوء علاقة الولاء الخاصة بين الأنصار وزعيمهم. لم يلعب انفتاح سائرون على التيار اليساري التقليدي دوراً كبيراً في نجاحها، إذ تشير نتائج التصويت إلى أن جميع مرشحي الأحزاب الأخرى المتحالفة مع حزب الاستقامة الصدري، بمن فيها الشيوعيون، لم يحصلوا في العاصمة بغداد سوى على قرابة 50 ألف صوت، ما يشكل عشر أصوات سائرون فقط. وفي كل الأحوال فإن وجود ثلاثة نواب شيوعيين فقط مقابل 50 نائباً من حزب الاستقامة يُبين بوضوح حقيقة توازن القوى داخل الكتلة. غير أن الأهم من هذه الأرقام هو طبيعة العلاقة الملتبسة بين الكتلة البرلمانية والقائد الذي يتحرك دون تخويل واضح، وبما يفتح الأبواب أمام احتمالات كثيرة.

ليس من المستبعد أن يغري هذا النجاح زعيم التيار الصدري بمحاولة تكريس نفوذه في العملية السياسية وفرض ما يشبه صيغة عراقية لولاية الفقيه. قد يلجأ للتلويح باحتجاجات مليونية وتعطيل العملية السياسية إذا لم تستجب الأطراف الأخرى لطلباته. لو حدث ذلك فإن فرص نشوء ما يدعى بالسلطة المزدوجة في العراق يصبح أمراً محتملاً. بطبيعة الحال لن يكون ذلك السيناريو الوحيد في ظل توازن القوى الداخلي والإقليمي، لا سيما وأن التيار الصدري باعتباره أحد أجنحة الإسلام السياسي شهد تحولات كثيرة، آخرها تحالفه داخلياً مع قوى يسارية وليبرالية وانفتاحه إقليمياً على حلفاء واشنطن في المنطقة وفي مقدمتها السعودية، غير أن هذا التوجه الجديد لن يؤدي تلقائيا إلى تعزيز الحياة الديمقراطية والشفافية في اتخاذ القرار وتكريس مبدأ فصل الدين عن الدولة. مثل هذه الأهداف لن تتحقق إلا من خلال النقد الشامل للمبادئ التي يقوم عليها التيار الصدري وطبيعة علاقته بزعيمه الكاريزمي.

كاتب وأكاديمي عراقي