كرة القدم..

العنف المقنن: دفاعا عن كرة القدم

رأس اللاعب الأرجنتيني مسي كما زينه مقص الحلاق

أبوبكر العيادي

لم يكن أبناء النبلاء البريطانيين ممن ابتدعوا لعبة كرة القدم في مدارسهم المسيّجة يتخيلون أنها ستغزو العالم، وتصبح أول رياضة شعبية تستهوي كافة الشرائح المجتمعية في شتى القارات. اعتنقتها الشعوب لسهولة ممارستها، لأنها بخلاف التنس والغولف والمبارزة بالسيف وسائر الرياضيات الجماعية لا تحتاج إلا لكرة ولو كانت من مطاط أو إسفنج أو خرق بالية، ولا يستلزم خوض مبارياتها أكثر من بطحاء أو ساحةٍ متربة أو شارعٍ مقفر وحتى أرضٍ بور.

وقد تملّكها كل شعب وحذق تقنياتها وأضفى عليها من خصاله وميزاته، حتى تحدث أهل الاختصاص عن الانضباط الألماني، والتكتيك الإيطالي، والفنيات الأميركية اللاتينية، مثلما تحدثوا عن “كرة القدم الاشتراكية” التي كان المنتخب المجري في خمسينات القرن الماضي تحت إشراف الممرن غوستاف سيبيس (1906-1986) رمزها الأمثل، في مقابل “كرة القدم الليبرالية” ممثلة في المنتخبات الغربية، إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا بخاصة، أو “فوتبول الصّامبا” بالبرازيل في منتصف الخمسينات ومطلع الستينات أيام ليونيداس وفافا وديدي وبيلي وغارينشا، ثم في مطلع الثمانينات مع سقراطس وجنيور وزيكو وفلكاو، وهي قمة ما بلغته هذه الرياضة من فنيات عالية، تتآلف فيها المهارات الفردية والنزعة الهجومية واللعب الجماعي والبحث عن تحقيق الفرجة، وكأن مباراة كرة القدم عرض فني أو ألعاب بهلوانية في سيرك.

وبانتشار وسائل الاتصال الحديثة، ازدادت هذه اللعبة انتشارا في الأوساط الشعبية، الشبابية بخاصة، لا تستثنى من ذلك أي قارة، أولا لأنها صارت لدى الفرد سبيلا لتحقيق الذات، ولدى الأنظمة السياسية وسيلة للتلهية وكسب التعاطف. وبات لاعبو الكرة نجوما يلهج بذكرهم المحبّون، ويروم ودَّهم القادة والزعماء، فيستقبلونهم عقب الفوز استقبال الجنود المتوجين بنصر مبين، تستوي في ذلك البلدان المتقدمة وبلدان العالم الثالث.

تلك الشعبية استغلتها الأنظمة لأغراض دعائية وأيديولوجية كما في ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية أو الأرجنتين زمن الطغمة العسكرية، حتى عُدّ المنهزمون خونة يحقّ تسليط العقاب عليهم، كما حصل للاعبي المنتخب المجري مثلا إثر انهزامهم أمام ألمانيا في نهائي بطولة العالم عام 1954، مثلما استغلتها أنظمة أخرى، من العالم الثالث في الغالب، لصرف اهتمام الشعوب عن القضايا المصيرية، حتى قيل إن كرة القدم تحولت بدورها إلى أفيون لا غنى للشعب عنه، كلفه ذلك ما كلفه.

المفكرون وعلماء الاجتماع اهتموا بهذه الرياضة، ليس لكونها ظاهرة اجتماعية فحسب، وإنما أيضا لأنها تولّد إحساسا قويا بالانتماء إلى المجموعة، وتنزع إلى الكونية والتسوية بين البشر

ولكن إذا كان بعض الحكام يستغلونها لأغراض مبيّتة، فإن آخرين يهوونها لذاتها، إما لأنهم عشقوها منذ الصغر، كلولا رئيس البرازيل الأسبق، أو تسلّوا بها مع أترابهم لتزجية أوقات الفراغ كفرنسوا هولاند رئيس فرنسا الأسبق، أو مارسوها في شبابهم ضمن أحد الفرق الرياضية كأردوغان رئيس تركيا، أو لم يجدوا لعشقها علاجا حتى بعد الجلوس على سدة الحكم كما هو شأن إيفو موراليس رئيس بوليفيا الذي قرر الانضمام إلى فريق محلي كلاعب محترف (براتب رمزيّ والحق يقال).

والثابت أن السواد الأعظم من شعوب الأرض قاطبة يعشقونها لخصوصيتها، ولكونها لعبة تتطلب استعمال أكثر أعضاء الجسد تمنعا عن ترويض جسم منفوخ نطاط مراوغ، أي الرجلين والرأس والصدر، فتبدو العملية نوعا من التحدي ليس كل الناس مؤهلين له. ويعشقونها لجمالياتها كما تتبدى في أقدام عمالقة هذا الفن، من بيلي ومارادونا إلى زيدان وميسّي وكريستيانو رونالدو، ولجانبها الدرامي حيث تفوق التقلبات والنهايات المأساوية أحيانا المسرح الإغريقي تراجيدية، ولتأزمها حدّ الذروة تأزما لا يعلم انفراجه أحد، فمباراة الكرة، خلافا للإنتاج الفني القائم على التخييل، قصة كان أم رواية أم مسرحية أم شريطا سينمائيا، لا تُعرف لها نهاية مسبقة، إلا ما يدخل في باب التكهن والتخمين، وهو كما نعلم باب يخطئ فيه المرء أكثر مما يصيب.

ومن ثَمّ اهتم المفكرون وعلماء الاجتماع بهذه الرياضة، ليس لكونها ظاهرة اجتماعية فحسب، وإنما أيضا لأنها تولّد إحساسا قويا بالانتماء إلى المجموعة، وتنزع إلى الكونية والتسوية بين البشر.

هذا مثلا الفيلسوف الفرنسي جان كلود ميشيا في كتابه “أجمل الأهداف كان تمريرة” يرى فيها رياضة تراهن على العمل الجماعي والتعاون. وهو إذ يدافع عن أصولها الشعبية ضد المسخ التجاري، وضد المثقفين الذين يصفونها بأفيون الشعوب، يحن إلى زمن البراءة، عندما كانت الكرة مجرد لعبة تمارس في بطاح الأحياء الشعبية بشغف وحماس وعفوية، ويلامس خلالها اللاعبون الجمال، “جمالا ينشأ من فرحة اللعب من أجل اللعب” كما يقول الأورغوائي إدواردو غاليانو في كتابه “كرة القدم، ظل وضوء”.

وبرغم المساعي الليبرالية لتدجينها وإرضاخها لخدمة مصالح فئات معينة، وبرغم محاولات جعل المتفرجين فئران تجارب في “مجتمعات المراقبة” على حدّ تعبير ميشيل فوكو، فإن هذه الرياضة ما فتئت تستقطب عشاقا من سائر طبقات المجتمع ومن شتى الشرائح العمرية، لما لها من طاقة تحرير وخلق جماعي ورابط اجتماعي. 

وإذا كان بعض الأدباء قد تناولوها في أعمالهم الأدبية من زوايا معينة، مثل بيتر هندكه في رواية “روع حارس المرمى لحظةَ ركلة الجزاء” و”ميادين” لبازوليني و”لاعب كرة قدم” لبرونو هيكمان، فإن عددا من المفكرين توقفوا عند هذه الظاهرة ليحللوها تحليلا علميا، فلم ينظروا إليها نظرة الرومان إلى ألعاب السيرك الكبير circus maximus حينما كانوا يتقربون بها إلى الآلهة لإمتاعها وكسب رضاها من أجل أن تعطف عليهم وتحقق لهم الرخاء، بل رأوا فيها تعبيرا عن جملة من القيم. فهي في نظر الفيلسوف الإيطالي الشيوعي أنطونيو غرامشي (1891-1937) مملكة الوفاء البشري تمارس في الهواء الطلق، وفي نظر المؤرخ الماركسي إريك هوبسباوم

(1917-2012) الديانة اللائكية للبروليتاريا. أما ألبير كامو (1913-1960) وكان في شبابه لاعبا ضمن أحد الفرق الجزائرية أيام الاستعمار، فقد صرح مرة “كل ما حققته في حياتي كان الفضل فيه لكرة القدم”. وحتى ما يتخللها من اندفاع فهو من قبيل العنف المنظَّم، أو ما يسميه عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس (1897-1990) “العنف المسيطر عليه”، في إشارة إلى مدونة القواعد والقوانين والأحكام التي تنظمها.

لا أحد ينكر أن هذه الرياضة هي الأولى بامتياز، يعشقها ملايين البشر في العالم، ملوكا ورعايا، رؤساء ومرؤوسين، ويتابعونها ليل نهار، كما هي الحال الآن في مونديال روسيا، ويجدون في مشاهدتها متعة كبرى، ولكن المفارقة أن صانعيها، والساهرين على إخراجها في أجمل حلة، أي اللاعبين، لا يلقون الإكبار نفسه في الغالب إلا من العامّة، وبعض الخاصة في مناسبات تُستنفر خلالها الحميةُ الوطنية كأن البلاد في حرب، وما عدا ذلك استياءٌ من تبجيل فئة مخصوصة تُمنح لها الامتيازات بغير حساب، واستهزاء من أولئك الذين ليس لهم من المؤهلات غير إتقانهم لعب الكرة.

 وعادة ما يصدر ذلك القدح عن المثقفين، إما للحطّ من قيمة اللاعبين والتشهير بانخرام درجات السلّم الاجتماعي. وإما لإدانة منظومة بحالها كما يذهب تيودور أدورنو أحد رؤوس مدرسة فرانكفورت، التي نادت باستعمال الفلسفة كنقد اجتماعي للرأسمالية، إذ يقول في هذا الغرض “إن تمجيد أولئك المساكين معناه تمجيد المنظومة التي جعلتهم كما هم الآن”

وفي رأينا أن النظر إلى اللاعبين من هذه الزاوية منافٍ لمنطق الأشياء. أولا، لأن المنظومة لا تسحق تلك الفئة وحدها بل هي حالة كونية عامة، تستغل الأحياء والنبات والأشياء فتحلبها حتى الضرع أو تنهشها حتى العظم لتحقيق مصالحها الخاصة بالدرجة الأولى، وليس للاعبين أدنى حيلة في التمرد عليها أو التملص من قبضتها. ثانيا، لأن اللاعبين ليسوا مطالبين بشهادات جامعية كي يمارسوا هوايتهم، ولا ببيان الجاحظ كي يردّوا على أسئلة الإعلاميين والأنصار، بل هم مطالبون أساسا باستعراض المهارات التي حذقوها وتنفيذ الخطط التي تدربوا عليها لكسب المباراة.

والذي يلمّح إلى ضحالة مستواهم الثقافي يعرف أن أمهر اللاعبين في العالم منقطعون عن الدراسة، نشؤوا في الأحياء الشعبية الفقيرة، ووجدوا في الكرة طوق نجاة، ومن لم ينقطع، لا يوفق بين الرياضة والدراسة إلا في حالات نادرة. ويعرف أيضا أنه كما لا تصحّ محاسبة أهل الصنائع والحرف عن عدم إلمامهم بقانون الجاذبية والنسبية والفيزياء الكمية، لا يصحّ أن نطالب لاعبي الكرة بكتابة شعر التفعيلة أو مناقشة منطق أرسطو ولا حتى تحليل حكاية من حكايات كليلة ودمنة، لأن ذلك ببساطة ليس من مهمتهم. قالت امرأة لبشار “لا أدري لمَ يهابك الناس مع قبح وجهك”. فقال “ليس من حُسنه يُهاب الأسد”.

ثم لمَ يُحاسَب لاعبُ الكرة دون سواه عن “فقر زاده” و”هلهلة خطابه” و”ضحالة تفكيره” والحال أن مستواه الذهني واللغوي لا يبعد عن متوسط مستوى عامة الناس؟

السبب في رأينا أن المثقفين يحسدونه لأنه يكسب ما لا يحلمون بعشره، رغم تدني مستواه قياسا بما يدّعون امتلاكه من ثقافة، كما أن الطبقة البورجوازية تستكثر عليه الشيء نفسه لأنها تعتبره دخيلا يحاول التشبه بها في نمط عيشها وتميزها داخل المجتمع وقُربها من مراكز القرار.  ولنا في موقف الطرفين من لاعبي التنس والغولف والفرمولا وان خير دليل، فكلاهما لا ينبس بكلمة ضد محترفي تلك الرياضات رغم ما يكسبونه من قناطير مقنطرة من الأموال، لأنهم من العائلات الموسرة، ورياضتهم في مأمن من فئات الشعب الضعيفة.

بقي أن نقول إن كرة القدم لم تعدم لاعبين صار لهم بعد اعتزالهم شأن وأي شأن، كالألماني كارل هايز رومنيغه رئيس نادي بايرن ميونيخ، والأرجنتيني خورخي فلدانو الذي صار كاتب روايات، والفرنسي إريك كانتونا الذي أصبح رساما وممثلا سينمائيا، والفرنسي ميشيل بلاتيني الذي ترأس الجامعة الأوروبية وكان يعتزم الترشح لرئاسة الفيفا، والمغني الإسباني الشهير خوليو إغليسياس، والكاتب المجري الكبير بيتر إسترهازي. أما في تونس فالقائمة طويلة، بدءا بالمخرج التلفزيوني عبدالجبار البحوري والطبيبين حامد كمون والهاشمي الوحشي وصولا إلى الروائيين محمد الهادي بن صالح وعبدالجبار العش وتوفيق العلوي وكاتب هذه السطور.

 وفي ذلك دليل على أن كرة القدم صورة من المجتمع بكل مكوناته، يلتقي فيها المتوسط والمتفوق، ولو أن نبوغ نجومها لا يقاس إلا على الميدان بمقاييس الإبداع… الكروي.