معالجة سينمائية لتساؤلات مصرية حائرة..

"كارما".. عودة جديدة لخالد يوسف بعد انخراطه في السياسة

عمرو سعد يقدم شخصيتين متناقضتين

سارة محمد
القاهرة

يعود المخرج خالد يوسف طارقا الأبواب لكشف وتشريح طبقات المجتمع المصري، بصورة واقعية ضمن رصده لحياة طبقة الأغنياء والمنتفعين من الأنظمة السياسية، وربما كان وجود يوسف تحت قبة البرلمان، كعضو منتخب في مجلس النواب المصري، ومشاركته الدؤوبة في ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في هذا الاقتراب الذي لم يظهر على الشاشة من قبل بهذه الدرجة من الوضوح.

المتتبع لخالد يوسف يجده مغرما برصد الفوارق الاجتماعية والتباينات الطبقية في الكثير من أعماله التي يجعل لكل منها مغزى معيّنا، من دون أن يضع حلا إلزاميا لفكرة فيلمه، كما في فيلمه “حين ميسرة” الذي قدّمه منذ تسع سنوات، لكن في فيلمه الجديد وضع قانون “الكارما” ليكون السبيل إلى الخروج من النفق الضيق الذي اتسعت فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء، متمردا على المقولة الشهيرة “السينما لا تعالج القضايا، بل وظيفتها العرض فقط”.
تصحيح مسار
رغم استخدام المؤلف والمخرج خالد يوسف، الفيلم لهذا القانون العادل في نظر الكثيرين، إلاّ أنه وضع المشاهد في مأزق آخر يرتكز على حالة الارتباك التي صنعها يوسف عن قصد في عقل المشاهد باستخدامه لشخصيتين في الفيلم من دون أن يحدّد ما إذا كان هناك شخص واحد من طبقة الأثرياء يرى الفقراء في أحلامه وضميره الغائب يخاطبه من أجل نظرة أخرى لهؤلاء البؤساء الذين يريد هدم منازلهم، أم أنهما شخصان بالفعل، كل منهما ينتمي لشريحة اجتماعية مختلفة.
لماذا اختار المخرج خالد يوسف قانون “كارما” ليبني عليه أحداث فيلمه الذي يحمل العنوان ذاته؟ وهل يكمل به سلسلة أفلامه التي تحاكي مجتمع العشوائيات في مصر؟ هذه عينة من التساؤلات التي تدور في عقل المشاهد الذي وضعه المخرج في حيرة وارتباك شديدين من المغزى الحقيقي لفيلمه الجديد، الذي صاحبته ضجة قبل عرضه في دور السينما مع حلول عيد الفطر، عندما سحبت الرقابة على المصنفات الفنية تصريحها للفيلم، ثم عادت ووافقت على عرضه بعد يوم واحد من المنع، عقب تدخل جهات سيادية احتكم لها خالد يوسف.
وتتصاعد حدة الارتباك مع تزايد حالة التداخل الديني التي وضعها بين البطلين، المسلم والمسيحي، وكأنه يريد أن يرصد أكثر من فكرة في أحداث الفيلم بين مجتمعات الفقر والتعصب الديني، دون رباط مشترك محدّد بينهما، فإذا كانت قضية الفيلم بالأساس هي تغوّل الرأسمالية وتوحّش بعض الأثرياء في إزاحة الفقراء، فلماذا تم إقحام فكرة الفتن والتعصب الديني في الأحداث؟
قانون “الكارما” الذي سمى به المخرج فيلمه، ويؤكد عليه طوال العمل، ينتمي بالأساس إلى مصطلح من الديانات الهندية يختص بالأفعال التي تحدّد الحالة المستقبلية لتصرفات الشخص في حياته “خير أم شر”.
ومن هذه الفكرة استقى المخرج أحداث فيلمه من خلال شخصيتين يجسدهما الفنان عمرو سعد، الأول يحمل اسم “أدهم”، الرجل المسلم الثري الذي يريد التخلص من مجتمع الفقراء والعشوائيات ويعيش حلما لواقع رجل آخر يدعى “وطني”، وهو رجل صعيدي من جنوب مصر، وقبطي (مسيحي) يحلم بثراء “أدهم” ويرى أعماله السوداء في أحلامه، ما يعني أن كليهما يرى الآخر أثناء النوم، وتحدث مفارقة في منتصف الأحداث تجعل كل منهما يتبادل المكان مع الآخر.
"كارما" لا يقدم جديدا عدا إعلانه عن عودة خالد يوسف إلى السينما بعد انخراطه في عالم السياسة
"كارما" لا يقدم جديدا عدا إعلانه عن عودة خالد يوسف إلى السينما بعد انخراطه في عالم السياسة
ويحاول كل من وطني وأدهم تصحيح مسار الآخر، الفقير سيكون ضمير الغني الغائب يوقع برجال الأعمال الفاسدين، أما الأخير فيقوم بمساعدة الفقراء وتحويلهم إلى مجتمع فاعل بدلا من انتظار هبوط معجزة عليهم من السماء.
ويؤكد خالد يوسف أنه وضع حلا (لأول مرة تقريبا) لأزمة الطبقية، وألقى بنتائجها على الأغنياء الذين تجاهلوا الفقراء وأرادوا التخلص منهم، في الوقت الذي تواكل فيه الآخرون على الأحلام وانشغلوا بحقائق زائفة، كالتي يعيشها المواطن الفقير وطني في بحثه عن كنز مجهول من أجل اللحاق بثراء الأغنياء.
ويبدو أن الحل الذي وضعه يوسف في نهاية الأحداث بمثابة تنفيس عن المسكوت عنه في داخله من أحلام لصالح الفقراء الذين حاول مساندتهم من موقعه السياسي كنائب في البرلمان المصري وعضو فاعل في التكتل المعارض للحكومة المعروف بـ”25/30”، لكنه لم ينجح في تحقيق أهدافه.
اللجوء إلى المباشرة في استخدام الرمز، يبدو عكس المعتاد في أفلام خالد يوسف الذي لجأ إلى استخدام الرموز بلا مواربة، خصوصا على مستوى اختيار الأسماء، كما في اسم وطني الذي حمله القبطي الفقير، وكأنه يؤكد على فكرة المواطنة التي تأثرت ببعض الأحداث ذات الصِّلة بالفتن الطائفية، لذلك يريد التشديد على أن الدين لله والوطن للجميع.
ويوحي كذلك اسم “مدينة”، زوجة وطني التي تلعب دورها الفنانة زينة، فرغم الخطأ الذي وقعت فيه وإقامة علاقة مع رجل آخر غير زوجها للحصول على المال دون المساس بشرفها، تبقى هي الكيان والمجتمع الحاضن مع كل الأخطاء والهفوات السائدة.
ومع كل الرموز والمفردات والمعالم المباشرة، هناك فلسفة واضحة تطفو على الأحداث تعود إلى أستاذه المخرج الراحل يوسف شاهين الذي كان يتبع هذا المنهج في أعماله، ففي “كارما” ترك المخرج مساحة للتأويل والتفكير في عقل المشاهد نحو شخصية البطل وعمّا إذا كان شخصا واحدا أم اثنين؟ وبعيدا عن هذه الفكرة يبقى التساؤل لماذا لجأ المخرج إلى إقحام فكرة الأديان في الأحداث؟
ربما كان التخوف من فكرة اضطهاد المواطن المسيحي وطني وتغيير ديانة البطل سببا في قرار منع الفيلم والتراجع عن طرحه في دور العرض السينمائية، قبل تدخل بعض الجهات التي نجحت في حل الأزمة، وتبقى صياغة الفكرة في الجمع بين أحلام رجلين، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، ضعيفة ومقحمة على البناء الدرامي للفيلم الذي تقوم معالجته بالأساس على فكرة الطبقية.
الجدوى الوحيدة في استغلال قضية الأديان في “كارما”، ربما لن يصل إليها المشاهد بسهولة، وتتمثل في التأكيد على فكرة المواطنة وتجلت في مشهد قتل زينة -مدينة- المسيحية لتسقط في حضن عمرو سعد -أدهم- المسلم الذي انتحل شخصية زوجها وطني، بخلاف فكرة رصد أوضاع المجتمع القبطي المهمش، خصوصا من هم تحت خط الفقر في المجتمعات النائية -الصعيد- كما هو أصل البطل وطني.
وإلى هنا تبقى الفكرة مقبولة ولعلها تصب في صالح المغزى الرئيسي من العمل، لكن يظل تساؤل تبادل الأديان بين البطلين واشتعال الفتن بين المنتمين لأصحاب الديانتين مأزقا كبيرا أفسد حالة الفيلم.
ويبدو من الأحداث المتتابعة أنها تعود لرصد واقع المجتمع المصري في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وما تلاه من فوضى وصعود سياسي للإخوان، وبدا عنصر الزمن مفقودا ولا يتضح إلاّ في مشهد النهاية بعد زيارة أدهم الرجل الثري لقبر ابنته “كارما” التي توفت في حادث طائرة، ممّا تسبب له في حالة إنكار للذات، حيث يظهر تاريخ الميلاد والوفاة من “2007-2012” وكأنه يؤكد بصورة غير مباشرة أن الطبقية والفتن الدينية صناعة الأنظمة السياسية الفاسدة.
حضور باهت
رغم وجود حشد كبير من الفنانين في الفيلم، إلاّ أن ثمة أزمة واضحة في استغلال هؤلاء ضمن أدوارهم التي بدت باهتة أحيانا، مثل الفنانة وفاء عامر التي زاد وهجها في السنوات الأخيرة وظهرت وكأنها كومبارس في المشاهد القليلة التي ظهرت فيها، ولعبت دور “فاطمة” جارة البطل وطني، كذلك الفنانة غادة عبدالرازق التي قدّمت دور “نهلة” مديرة مكتب أدهم الرجل الثري، وظهر أداؤها متواضعا ولا يليق بفنانة كبيرة مثلها.
بخلاف ظهور بعض الإعلاميين، مثل يوسف الحسيني وإنجي أنور والناشط السياسي والمذيع خالد تليمة والمخرج عمر زهران، وكل هؤلاء ظهروا في الفيلم وكأنهم جاؤوا مجاملة للمخرج الذي تربطه بهم صداقة عميقة من دون وجود حاجة ملحة لمشاركتهم.
وحاول خالد يوسف في هذا الفيلم التحايل على صورة مجتمع العشوائيات الذي رصده في أعمال سابقة، وكان مثيرا لزوايا محدّدة للكاميرا، وتعمد الهروب إلى مساحات واسعة يعلو بها فوق أسطح بعض البنايات في رصد لافت وقريب من التشريح الاجتماعي الذي يقدّمه بما يتماشى مع ثراء البطل الذي يتجوّل بطائرته الخاصة في القاهرة.
ربما لا يسجل فيلم “كارما” أهدافا جديدة تضيف لخالد يوسف ما يفوق تجاربه السابقة، خاصة الأخيرة “كف القمر” الذي قدّمه في العام 2011 ونجح من خلاله في تقديم صورة رمزية لحال المجتمعات العربية المتشرذمة، لكن يبقى “كارما” طوق عودة فنية جديدة ليوسف بعد انخراطه في عالم السياسة لسنوات.