مونديال 2018..

عذرا ميسي لقد غيّروا المفاهيم

منتخب مغمور تمكن نسبيا من أن يحقق المعجزة

مراد البرهومي

شارف السباق المحموم على لقب مونديال 2018 على النهاية، بقي فارسان فقط في السباق، ثمة منتخب فرنسي قوي ومنظم للغاية، وثمة منتخب كرواتي أعاد إلى الأذهان صورة ذلك “الحصان الأسود” الذي أتى من خلف الضباب والظلام، “فأكل الأخضر واليابس″ وسبق الجميع، بدا اليوم أقرب إلى اللقب أكثر من أي وقت مضى، لقد تماهى هذا المنتخب مع كل “المعجزات”، بات “أسطورة” قلبت كل المعايير والمفاهيم.

فهذا المنتخب الكرواتي خطّ اسمه بأحرف من ذهب، دخل التاريخ من أوسع المداخل، طرق كل الأبواب الموصدة في متاهة مونديالية معقدة وواصل ولوجه السريع ليصل إلى المحطة النهائية، لقد بات هذا المنتخب ضمن الدائرة الضيّقة لمجموعة من المنتخبات التي نالت شرف الوصول إلى نهائي الحدث العالمي الجليل.

ما الذي حصل؟، كيف تمكّن هذا المنتخب “المغمور” نسبيا من أن يحقق المعجزة ويتجاوز كل منافسيه؟ كيف له أن يبلغ النهائي وسط زحام شديد وفي ظل وجود منتخبات منحها التاريخ المونديالي السبق في كل التكهنات والتوقعات كي تفرض سطوتها وسلطتها وتؤكد أحقيتها الأزلية بالتنافس على اللقب؟

ما حدث في المونديال مع المنتخب الكرواتي يدعو حقا للدهشة والإعجاب، يمكن القول إن ما تحقق مع هذا المنتخب يشبه الخيال أو بعض السحر المنمق بأسطورة تجسدت حدثا عظيما في زمن الكرة الحديثة، لقد صعد المنتخب الكرواتي إلى عنان السماء بعد أن توفرت عدة ممهدات جعلته يقطع مع إخفاقات نسبية سابقة، ويؤكد أن مكانه الطبيعي حاليا يجب أن يكون ضمن “صفوة” ونخبة المنتخبات العالمية.

قصة هذا المنتخب “المتعملق” بدأت منذ مونديال البرازيل 2014، حينها قدّم المنتخب الكرواتي عروضا جيدة، كان خصما قويا وعنيدا، فهو بدأ للتو حصد ثمار ثراء مخزونه الطبيعي و”جودة منتوجه” من اللاعبين المميزين، لكن الحظ لوحده جعله في مجموعة صعبة خرج منها خالي الوفاض فغادر الساحة مبكرا بعد سقوط أمام المنتخبين البرازيلي والمكسيكي.

استجمع هذا المنتخب قواه، فانطلق باحثا بعد عامين عن مجد أوروبي، فشارك في نهائيات أمم أوروبا 2016، تمكن من الصعود إلى الدور الثاني، لكن الحظ أدار له الظهر ليودع البطولة بعد مباراة ماراثونية ضد البرتغال، فوّت منتخب كرواتيا الفرصة مجددا، لكن الأمل سيظل قائما ما دامت ثمة مؤشرات واعدة، وما دام هناك إيمان راسخ بسحر هذا الجيل المميز الذي يشكل عماد المنتخب الكرواتي.

بعد المطبّات المربكة خلال مراحل التصفيات، نجح هذا المنتخب في تحقيق الغايات وأمّن حضوره المتتالي في المحفل العالمي، ثم انطلق مسرعا كي يستعد لهذا التحدي الجديد، استعد دون جلبة وضجيج بعيدا عن كل الأعين والأضواء، استعد بروح جديدة ورغبة متجددة في كسر حاجز المستحيل.

بدأت المهمة المونديالية، ارتدى الفارس الكرواتي ثوب المحارب القادم من خلف الأجمة، لقد انطلق سريعا، ولم يأبه بسمعة المنافسين في كل مرحلة ومعركة، فضرب بقوة وبكل إقناع ضد المنتخب النيجيري ليصيبه بهجمات قوية ومحكمة للغاية.

لم يستوعب ميسي الأمر، لم يفهم ماذا حصل بالضبط، لكن تلك هي نواة الثورة الكرواتية التي قلبت كل المعطيات، فلا مجال اليوم لكرة يقودها لاعب بمفرده

جاء الدور بعد ذلك على الاختبار الأرجنتيني، حانت ساعة مواجهة ذلك الفتى الذهبي وأحد أساطير الكرة عبر التاريخ ليونيل ميسي، في تلك المباراة بالذات بدأت بشائر “ثورة حقيقية” في عالم الكرة الحديثة تظهر وتبشر بتغيير كل المفاهيم السائدة.

ففي تلك المباراة “تعطبت” كل الآليات الهجومية لمنتخب أرجنتيني يضم أفضل نجوم العالم بقيادة ميسي، اهتزت كل أركان الدفاع في منتخب “التانغو” فتم الرضوخ لمشيئة هذا “الحصان” الكرواتي الذي ابتدع أسلوبا جديدا يعتمد على تطويع المهارات الفردية المتفردة والقدرات البدنية العالية لخدمة المجموعة.

في تلك المباراة التي انتهت بفوز كرواتيا بثلاثية نظيفة، يخيل لكل ما تابع أطوارها أن المنتخب الكرواتي يلعب بعشرين لاعبا وأن المنتخب الأرجنتيني ينافس بلاعب فقط، كان هناك فارق كبير في القدرات والمعدات.

في تلك المباراة لم يستوعب ميسي الأمر، لم يفهم ماذا حصل بالضبط، لكن تلك هي نواة الثورة الكرواتية التي قلبت كل المعطيات، فلا مجال اليوم لكرة يقودها لاعب بمفرده، لا مجال لنجاح ينبني على المكانة التاريخية، بل إن ما قدمه المنتخب الكرواتي يؤكد أن مفهوم الكرة المعاصرة الحديثة ينبني على “استنساخ” رئة ثانية، فيغدو كل لاعب أشبه بـ”ماكينة” لا يصيبها الكلل والإعياء، آلة لا يصيبها أي عطب.

مرّ المنتخب الكرواتي إلى الأدوار المتقدمة، وأراد أن يكمل “ثورته” أراد أن يتمادى ويتمرد على الوضع السائد، فنجح بكل اقتدار، بل الأكثر من ذلك أنه حقق إنجازا وإعجازا سيخلده التاريخ.

المنتخب الكرواتي خاض في مباراة دور الستة عشر مباراة أشبه “بحرب” مسترسلة ضد المنتخب الدنماركي تطلبت 120 دقيقة من الركض المتواصل، كانت حرب استنزاف بأتم معنى الكلمة، كانت خلالها الكلمة لمنتخب كرواتيا.

توقع الجميع أن ينهار الكروات في المباراة التالية ضد المنتخب الروسي القوي بدوره من الناحية البدنية، لكن أي قوة وأي جاهزية كانت تقود هذا المنتخب الكرواتي المميز نحو المقدمة، لقد كان لاعبوه في أفضل حالاتهم البدنية، فخاضوا “استنزافا جديدا” لمدة ساعتين، وحق لهم التأهل إلى المربع الذهبي.

لتكتمل فصول المعجزة الكروية ضد منتخب إنكليزي شاب وحيوي ومنتعش للغاية، لكن مرة أخرى كانت الغلبة لهؤلاء “الأشباح” أو لنقل هؤلاء “الوحوش” الذين يملك كل واحد منهم أكثر من “رئتين”، ففي الوقت الذي توقع خلاله العديد من المتابعين أن منتخب كرواتيا سيسقط خاصة بعد أن تلقت شباكه هدفا مبكرا، واصلت “الماكينة” الدوران بسرعة فائقة ونجحت وسط دهشة الإنكليز واستسلامهم.

لقد اكتملت فصول “الثورة” الكروية، ثورة شعارها المداومة وإلغاء التواكل، ثورة باغتت ميسي والبقية وأسست لواقع جديد بمفاهيم مبتكرة وطرق حديثة.