جيل الرسامات الجديدات..

رانيا كرباج رسامة ملطخة يداها بحب الكلمات

شاعرة ترسم ورسامة تكتب الشعر

فاروق يوسف

"إنها تكتب الشعر" تلك حقيقة ناقصة. الصحيح أنها ترسم بقوة الشعر. وهو ما جعلها تتحرر من الخوف من التعبير الحر. وهبها الشعر حرية مضافة. أما الرسم فإنه جعلها تكتشف مواقع غير مرئية من وجودها امرأة معاصرة.

الأنوثة الخفية
تنتمي رانيا كرباج إلى جيل الرسامات الجديدات، الذي كان ظهوره -كما أظن- قد أحدث تحولا كبيرا في تاريخ الحداثة الفنية في سوريا. فالأنثى الخالدة التي كانت موضوعا للرسم من جهة الغزل كما في أعمال نذير نبعة صارت صانعة تحوّلات فنية من خلال انفتاحها على لغز الأنوثة في مجتمع غير مستقر، لا يزال موقع المرأة فيه يتعرض للاهتزازات العنيفة.

لقد ساهمت كرباج في بلورة ملامح قضية إنسانية انفتحت بالرسم السوري الحديث على مناطق جمالية وفكرية لم تكن عناصرها التشكيلية جاهزة. لذلك يمكن القول إن الفنانة كانت واحدة من صانعات أمل مختلف.

ولأنها شاعرة فقد سحرُها في موضوعها الإيقاعَ الخفيَّ للأنوثة. ذلك الخيط المتوتر الممتد إلى مناطق غامضة هي عبارة عن جنات لا تصلح موضوعا للوصف، بالرغم من قوة تأثيرها العاطفي.

ما يُرى من أشكال أنثوية في رسوم كرباج يظل مسكونا بما لم يُرسم. وهو ما يشير إلى تمكّن روح المجاز الشعري، حيث أن الرنين الذي ينشأ من تصادم الأشكال إنما هو تمهيد لولادة طقس جمالي، لن يكون مقصودا لذاته، وهو ليس الهدف من عملية الرسم.

“يدي ملطخة بالحب” هو آخر كتبها الشعرية. عنوانه يوحي بتمكن الأصباغ من خيال اليد التي تكتب. إنه كتاب رسامة تكتب الشعر. وهو ما يعني أن كرباج تنتقل بخفة بين صفتين. الشاعرة التي ترسم والرسامة التي تكتب الشعر.

ولكن مَن سبقت الأخرى، الشاعرة أم الرسامة؟

أشكال أنثوية تظهر في رسوم كرباج، ما نراه منها يظل مسكونا بما لم يُرسم. وهو ما يشير إلى تمكن روح المجاز الشعري، حيث الرنين الذي ينشأ من تصادم الأشكال إنما هو تمهيد لولادة طقس جمالي، لن يكون مقصودا لذاته، وهو ليس الهدف من عملية الرسم

بالنسبة إلى رانيا كرباج فإن ذلك السؤال لم يعد ضروريا. لا لأنها رسامة تعبيرية، يلعب الأدب دورا كبيرا في تشكيل مزاجها التصويري، بل لأن الشعري والفني صارا ينبعثان من الموقع الجمالي عينه. الأنوثة التي تقول كل شيء في لحظة امتناعها عن قول شيء محدد.

رانيا كرباج تعرف أن الأنوثة في مكان آخر. لذلك فإن كل لوحة منها هي رحلة لا تتكرر إلى ذلك المكان.

ولدت رانيا كرباج في حلب عام 1976. درست الهندسة المدنية في جامعة حلب. كما درست الرسم في مركز رولان خوري للفن التشكيلي. كتبت الشعر وصدرت لها في ذلك المجال كتب شعرية خمسة هي “وصايا العطر”، “أين أنت”، “يدي ملطخة بالحب”، “أرض وورود” وأخيرا “السماء هنا” (2018).

عملت أستاذة محاضرة لمادة الرسم في كلية الفنون الجميلة بحلب لسنوات. قدمت كرباج عرضها الشخصي الأول عام 2013 في قاعة “أوركسترا” باللاذقية في معرض “امرأة نساء”. بعده أقامت معارض شخصية، كانت حريصة على أن تجعلها مناسبة لتقديم الشاعرة التي تقيم في أعماقها.

تقول في إحدى قصائدها “وهذه التي فوقنا ليست بسماء/ هو فقط اللون الأزرق يتمدد عاريا/ محاولا إغواء الأرض/ السماء هنا”.

في ذلك النص تعير الرسامة عينها للشاعرة لترى فيما تهب الشاعرة يدها للرسامة لتكتب. وهي علاقة تعيشها كرباج بمعادلة طرفاها استسلام رومانسي لسعادة متخيلة، وجموح تعبيري متمرد يهدف إلى التقاط تفاصيل صغيرة من حياة امرأة وحيدة.

ليست رسوم وقصائد كرباج مرثيات أو مدائح للأنوثة وإن بدت كذلك. مزيجها البصري والشعري إنما هو محاولة لتكريس الأنوثة دافعا للخلق وفي الوقت نفسه هدفا للمعرفة. صحيح أنها لا تظهر تعاطفا علنيا مع ملهمتها كما يفعل رسامها الأثير النمساوي غوستاف كليمت، غير أنها لا تخفي انحيازها إلى الرمزية التي ينطوي عليها الوجود الأنثوي.

بالنسبة إليها فإن الأنوثة لا تكمن في الجسد المختلف ولا في ما يمارسه ذلك الجسد من تأثير هو خليط من الأوهام الجمالية التي يمكن أن تنبعث من ثنية في ثوب كما يقول رولان بارت، بل في خيالها الذي يصنع تاريخا مجاورا للتاريخ البشري.

امرأة ترسم نساء أخريات كما لو أنها ترسم نفسها. معادلة تراها كرباج نزيهة وهي تعيد الأمور إلى نصابها؛ المرأة مقابل الرجل، والأنوثة مقابل الذكورة. هل يتمكن الرسم من القيام بتلك المهمة العسيرة من خلال الانحياز إلى الأنوثة؟

درس في الجمال
الأنوثة ليست هيكلا فقط بل هي سمة من سمات الكون
الأنوثة ليست هيكلا فقط بل هي سمة من سمات الكون
تقول كرباج جوابا على سؤال من ذلك النوع الساذج الذي يتعلق بالسبب الذي يدعو امرأة لكي ترسم سواها من النساء “لأنني أنثى وأبحث في ذاتي عن مكامن جميلة وجديدة، تشي بالتصاقي الوثيق بكل ما هو مخلوق حولي.

فالأنوثة ليست هيكلا فقط بل هي سمة من سمات الكون، وإصراري على البحث عنها هو تعبير عن محاولة فردية لاسترداد ما سلبته منها المعتقدات. ونحن حين نعيد الأنوثة إلى مكانها الطبيعي في كياننا، إنما نعيد للذكورة قيمتها وسيرورتها الطبيعية فلا يمكن للإنسانية أن تنمو على أساس من القطيعة العميقة في التاريخ بين مؤنثها ومذكرها”.

وكما يبدو فإن كرباج قد وجدت في طريقة تفكيرها في الرسم سببا لرفض النسوية. ليس لأنها لا ترى التمييز والظلم الذي لحق بالمرأة بل لأنها تسعى من موقعها رسامة وشاعرة إلى إصلاح مواقع الخلل بين قطبي المعادلة؛ الأنوثة والذكورة اللتين تبدو الحياة كئيبة من غير ندية في علاقاتهما. وهي العلاقة عينها التي تنسج كرباج خيوطها بين الرسم والشعر. لا يتعلق الأمر باللغة الخفية بل بالأدوات التي تؤثث العالمين برغباتها.

ترسم كرباج نساءها مجتمعات كما لو أنها تحتفي بكل الأنواع البشرية معتمدة في ذلك على حسّ شعري رفيع، يفرق بين جمال وجمال آخر. هذه رسامة تهبنا درسا في الجمال الذي يهوى نسبيته.

كرباج امرأة ليست كنسائها. لقد عاشت كل فصول الحرب التي كانت المرأة أولى ضحاياها. ولكن هل تُرسم الحرب؟ ولأن الحرب خبرة مثل الأنوثة تماما فقد حاولت كرباج أن تصف شيئا من الشقاء الذي صار على المرأة أن تتحمّله بسبب الحرب.

في متاهة الألم
إذا ما كانت الرسامة تميل أصلا إلى النساء القويات اللواتي لا يلجأن إلى استعراض الضعف وسيلة للغواية، فإنها وجدت في الحرب سببا مضافا لتكريس مبدأ الأنوثة التي تقاوم.

ما كتبته وما رسمته بتأثير ذلك الحدث الفاجع لا ينتمي إلى عالم السياسة بشيء. لم تعثر كرباج على ضالتها في الحرب. لا تصلح التعاسة موضوعا للرسم. أما شعرها فقد كانت كلماته تعجّ بالألم.

في معرضها “أكون أو لا أكون” الذي أقامته عام 2014 في غاليري زمان ببيروت تبدو كرباج منحازة إلى الحيرة باعتبارها خلاصا وجوديا. كان هناك التباس لدى بعض مَن رأى لوحات ذلك المعرض بين الملائكية والشهوانية. وهي علاقة تعد بالكثير من الألم.

يمكنك أن ترى في ذلك المعرض كل شيء عن الحرب إلا الحرب ذاتها.

ترى الشيء الكثير من الفقدان والحسرة والخسارة والتيه، غير أن المرأة التي لا تتغير بين مشهد وآخر تظل بمثابة رمز مقدس لحياة لا يُمكن أن تُمحى.

أضفى الحزن على نساء كرباج الكثير من المهابة.

هذا ما يجعلني على يقين من أنها استطاعت أن تضع خبرة الألم بين يدي الرسامة التي صار بإمكانها أن تكتشف ما كان خفيا عنها من أسرار الأنوثة.