“التصميم الذكي”..

الشرطية الزائفة

معنى الحياة وغائيتها يكمن في عقولنا (لوحة: دنيو أحمد علي)

لطفية الدليمي

“المعنى كامن في الغاية ومشروط بوجودها” هذه هي العبارة الشهيرة التي صارت عنوانا عريضا لعصر التنوير الأوروبي مثلما صارت ميدانا لمباحث فلسفية كثيرة أرادت جعل موضوعة “الغائية” مقترنة بكمال وجمال الوجود الإنساني، حتى على صعيد العلم الطبيعي.

ويمكن في هذا الميدان أن نشهد كيف تحولت الفلسفة الديكارتية إلى نمط اختزالي ميكانيكي يجعل الموجودات (بدءا من الكائن البشري وحتى الكون) محكومة بقوانين ميكانيكية محددة تنقاد للفيزياء النيوتنية التي عدّت المثال الصارخ في كيفية اقتران الغاية بالمعنى.
إذن كل الأشياء موجودة من أجل غاية محددة خليقة بخلع معنى متّسم بالمهابة والجلال ويشي بالقدرة الخلاّقة للصانع الأمهر، ومن الطبيعي أنّ اللاهوتيين ومُناصري الأنساق اللاهوتية كانوا أكثر الناس براغماتية ووقاحة عندما وظّفوا المبادئ الديكارتية من أجل ترسيخ سطوتهم الدنيوية مسنودين بدعم الحكومات القروسطية لهم، وأبدى العلماء من جانبهم الميل ذاته ولكن بعيداً عن النزوعات البراغماتية بل بتأثير الصياغات الرياضياتية المحكمة التي جاءت بها الميكانيكا النيوتنية وصارت مسك ختام العلم الطبيعي وأيقونته العصية على الاندثار.
 ظلّ الأمر على هذا المنوال حتى بدايات القرن العشرين وانبثاق الميكانيكا الكمية التي قلبت الأسس الفلسفية للعلم الفيزيائي؛ لكن حتى في تلك الأوقات كتب بعض أكثر العلماء تأثيرا في زمانهم، وأقصد به السير جيمس جينز، يقول “صار واضحا لدينا أن خالق الكون هو رياضياتي من الطراز الأول”.
قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى للحياة ولعا بالتفاصيل الفلسفية والرياضياتية والفيزيائية، لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية
إنّ موضوعة غائية الحياة والوجود الإنساني بعامة، وكونها مرتبطة على نحو شرطي بتوفر معنى للوجود هي موضوعة فلسفية، سايكولوجية، لاهوتية مركّبة في المقام الأول، وليست أسبقية أو ضرورة علمية وإن كان العلم وقوانينه ووسائله توظَّف بطريقة قسرية سيئة (أغلب الأحيان) في حمى الجدالات الفلسفية منذ عصر الفلسفة القروسطية ومرورا بعصر التنوير الأوروبي حتى يومنا هذا.
لندقق مثلاً في مبدأ “التصميم الذكي” الذي يعدّ الحجة الأكبر لوجود غائية محكومة بسلسلة سببية حتمية بين الوقائع المادية منذ لحظة الخلق الأولى حتى وقتنا هذا، وقد تلوّنت وسائل “التصميم الذكي” وحُجج العلماء الأعلام المدافعين عنه مع رهط مريديهم، وكانت الحجة الأحدث بين حججهم الكثيرة هي “التنغيم الدقيق”، تلك الإشارة التي تعني أنّ الوجود الفيزيائي للكون والموجودات الحية فيه تعتمد على ثوابت كونية بالغة الصغر، وأنّ تلك الثوابت لو طالها تغيير صغير للغاية لما كانت الحياة ممكنة على وجه الأرض، بل لما كان ثمة إمكانية لوجود الكون أصلا.
 قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى للحياة ولعا بالتفاصيل الفلسفية والرياضياتية والفيزيائية، لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هم يجادلون على هذا المنوال لأنهم يريدون مكافأة لكلّ فعل خيّر يفعلونه ولا يطيقون تصوّر عالم تنعدم فيه المكافأة المرتجاة من وجهة نظرهم.
يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب: قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ما تحبّ وتهيم به شغفا، ولا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولا تدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال. هذا هو ما يخلع معنى على الحياة، وليس كل ما سواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة اللاهوت أو الراحة الموهومة الناجمة عن الارتكان للقناعات الزائفة.