البكاء على أطلال الماضي..

معرض يمني يبكي التراث في بلد الصراعات

المرأة طريق للبحث عن السلام

محمـد عبدالهادي

بوجوه مبتسمة لفتيات يمنيات وجبال خضراء حبلى بالحياة، يحاول الفنان اليمني محمد سبأ تخيل اليمن سعيدًا قبل سنوات النزاع الداخلي، يتجاوز السماء الملبدة بشظايا الانفجارات، ورماد القذائف المتطايرة، إلى أخرى بيضاء صافية، تنذر بيوم هادئ يمكن أن يعيشه مواطنو بلده العالقون وسط الحرب.

في المعرض المقام خلال الفترة من 15 إلى 30 يوليو، بقاعة الدكتور مختار عبدالجواد في أكاديمية الفنون بالهرم في الجيزة المجاورة للقاهرة، يرى الجمهور يمنًا آخر غير الذي يشاهده على شاشات القنوات الإخبارية، بيوتا صفراء وحمراء متراصة على جبال مكسوة باللون الأخضر، تجتمع فيها مقومات الحياة المثالية، ماء وهواء ومرعى وخير.

رغم تركيز المعرض على التنوع الثقافي للبيئة اليمنية قديما، إلا أنه يحمل بين جنباته رسالة مفادها “الرغبة في الحياة” وتجاوز الحرب، فصائد الأسماك رغم كل شيء، يخرح من البحر حاملا سمكات ضخمة قانعًا بالرزق، وسيدات ينتظرن بلباسهن التقليدي ويبدو في أعينهن الأمل.

 

في وقت الأزمات والحروب يحاول التشكيليون الهروب إلى الماضي، يبحثون بين صفحاته عن السلام المفقود والأمل المنشود، منهم الفنان اليمني محمد سبأ، بمعرضه الجديد في أكاديمية الفنون بالقاهرة، الذي يحاول من خلاله إعادة إحياء التراث القديم، والبكاء على أطلال الماضي، في بلد يتقاتل داخليًا على السلطة.

تتكامل اللوحات فيما بينها لتصب في قضية واحدة “السلام”، تنتصر على الواقع المؤلم، صوتها أعلى من طلقات الرصاص ودانات المدافع وارتطام الصواريخ بالأرض، فالألوان الدافئة والفكرة الخصبة، وتوزيعات الضوء والظل تكون فيما بينها قصة تجعل النزاع مجرد “زائر غير مرغوب” فيه.

أطلال الماضي

يركز المعرض الذى يحمل اسم “مقتطفات يمنية”، وافتتحه السفير اليمني بالقاهرة محمد علي مأرم، بجانب الزي الشعبي والحلي والمهن الزراعية، على فكرة التاريخ، يحاول التذكير بمجد الماضي ومنح إسقاطات سريعة عن الحاضر، ليقارن الزائر بين الوضعين، يسعى إلى الجمع بين الضدين؛ أن تبتسم وأن تبكي في الوقت ذاته.

تجذب الزائرَ لوحةٌ بألوانها التي تعطي طابعًا رصينًا، فيها تقف الملكة بلقيس التي نهضت ببلدها وأنشأت القصور الضخمة، تتشاور ربما في كتاب النبي سليمان الذي ألقاه الهدهد أو الاستعداد للانطلاق في زيارة لاستكشاف ملكه، في محاولة لاستدعاء الماضي العريق وإعادة بث الروح في شخصية لا تزال مصدر فخر واعتزاز لليمنيين رغم مرور الآلاف من السنوات.

أكد سبأ لـ”العرب” أنه يعيد تقديم الماضي والتاريخ الذي تناسته الأجيال الجديدة التي لم تعرف سوى الحزن وتعاني نقصًا في مقومات الحياة والمعنويات في الوقت ذاته، فإعادة الحياة إلى الماضي عنصر لإراحة النفس بوجود البذرة الصالحة للحضارة وإمكانية إعادة إنباتها.

 في لوحة أخرى، يعيد تكرار الرسالة ذاتها، بصورة أكثر وضوحًا، راسمًا لوحة لمعبد برّان جنوب مدينة مأرب التاريخية، يتصدره وجه فتاة تتساقط الدموع الغزيرة من عينيها، وفي أقصى اليمين حروف باللغة السبئية القديمة، وصورة لهدهد سليمان.

وقال سبأ لـ”العرب” إن لوحاته تتجاوز الواقع بحثا عن السلام الذي جسده في نساء حاملات للمياه وراعيات للأغنام ومروج خضراء تتناثر فيها البيوت البيضاء، الكل يريد أن يعيش حياة طبيعية ينعم فيها بالاستقرار، تتحرك فيها المرأة دون قلق أو خوف.

محمد سبأ، فنان يمني شاب تخرّج في قسم التربية الفنية التابع لكلية التربية بجامعة إب، التي تبعد عن صنعاء 193 كيلومترًا، ويقيم في القاهرة بصورة مؤقتة، وشارك في العديد من المهرجانات والمعارض المصرية خلال السنوات الثلاث الماضية، بينها معرض “أفريقيا في قلب مصر”، يُقام برعاية منظمة “بان أفريكان موفمنت” العالمي سبتمبر 2017، ومهرجان السلام الذي أقيم في الإسماعيلية شرقي مصر بمناسبة يوم السلام العالمي، في أكتوبر 2016.

الأعمال المعروضة  تنتمي إلى مدارس فنية متباينة "واقعية وانطباعية وتعبيرية" في آن واحد بما يخلق تنوعا في الفكرة

يطغى طابع البورتريه على معظم لوحات المعرض، مع سعي الفنان اليمني لمنع حالة التشتت التي قد تنتج عن الجمع بين شخصيات كثيرة، والرغبة في خلق حالة تناغم موسيقي داخلي بين جمال البشر والطبيعة في الوقت ذاته دون حشر عناصر جذب أخرى تبعد عن ذلك الهدف.

تتجلي المرأة بكل صورها فلا تخلو منها لوحة تتضمن شخوصًا باستثناء واحدة لرجل تبدو على وجهه علامات الفقر المدقع، مقدما تناولاً بعيدًا أيضًا عن واقع اليمنيات المتردي حاليا، فنساء لوحاته يجمعهن عامل مشتركه الجمال والرضا حتى ولو في رعاية الغنم.

وحين تناول “حبوب البن” التي قيل إن اليمنيين أثروا بها في مزاج العالم، قدمها عبر ثلاث سيدات منهمكات في قطاف حبوبها من النوع التفاحي من المرتفعات التي تعانقها منذ بداية زراعة البن قبل 700 عام، تبدو نظراتهن صوفية صرفة مثل الصوفيين الأوائل الذين حولوا استهلاك القهوة إلى مشروب اجتماعي باليمن في القرن الخامس عشر.

أوضح سبأ أن هناك سيطرة تامة مقصودة للمرأة على معرضه فهي تعبير عن الوطن والشعب، وعن الحب والخوف، وعن الصراع بين الجمال والقبح، عن الأمل والتشاؤم، فرسائلها متنوعة في كل لوحة وفقًا للهدف منها.

نقطة ضوء

تنتمي الأعمال المعروضة إلى مدارس فنية متباينة “واقعية، وانطباعية، وتعبيرية” في آن واحد، بما يخلق تنوعا في الفكرة المطروحة، وقدرة على إيصالها إلى المتلقّين بشكل أفضل، مراعية تنوع الجمهور الذي يسعى الفنان إلى جذبه، على اختلاف أذواقه، ثم إن الجمهور اليمني مثلا أكثر إقبالاً على الفنون الأدبية منه على التشكيل بوجه عام.

يبدو تأثر محمد سبأ في لوحته “صائد السمك” بـ”ساقي الماء” للفنان اليمني الشهير هاشم علي (1945 ـ 2009) جليًا لمتابعي الفن التشكيلي اليمني في اللون والحركة، ويبدو الوضع أكثر وضوحا بوضع لوحات المعرض مع “حامل العشب، وبائعات البيض واللبن، الحدادون والفلاحون، والشوارع” التي أبدعها هاشم علي.

رغم تركيز المعرض على التنوع الثقافي لليمن قديما، إلا أنه يحمل رسالة مفادها "الرغبة في الحياة" وتجاوز الحرب

أشار سبأ إلى أن هاشم علي وعبدالجبار النعمان من الجيل الرائد في التشكيل اليمني وتأثر الأجيال اللاحقة بهما أمر طبيعي، ويعتبر ذلك التأثر لانطلاق جميع الفنانين من منبع واحد هو الجمال المفقود في اليمن ومعاصرة كل منهم للصراعات المتكررة في البلد.

جاء المعرض كنقطة ضوء وسط ما يعانيه التشكيليون اليمنيون من أزمات، بعضهم هجر المهنة بحثا عن قوت اليوم، والبعض الآخر لا يجد مكانا للعرض مع توقف صرف ميزانيات لها من وزارة الثقافة منذ الحرب، فمن بين 17 دارا تم بناؤها على مدار 14 عامًا لا تعمل منها حاليا سوى اثنتين فقط.

وأصبحت الحركة الفنية في اليمن شبه متوقفة حاليا، فمعظم البيوت الفنية تعرضت للتدمير جراء القصف، أو انتهكها المحاربون واستخدموها كمقرات واستراحات.

ردد سبأ مقولة لفان غوخ مفاداها، الفن يساوي أولائك الذين كسرتهم الحياة، وقادر على صناعة عالم بلا عنف وأكثر إنسانية، ويعتبر فرشته محاولة لإصلاح الأمور، ولا يملك الفنانون إلا التعبير بوسيلتهم المحببة، لوحة أو كلمة أو بيتا من الشعر.