البُعد العاطفي..

التجربة العاطفية في حياة المشاهير

الحياة هي الحُب والحُب هو الحياة

كه يلان مُحَمَد

التنوعُ في الطبائعِ والإهتمامات، وأشكال المَعيشة والتفاوت في مستويات الإدراك، والإختلاف في المُعتقدات، من الخصائص البارزة في تركيبة التَجمُعات البشرية لكنْ ثمةَ تجاربَ يشتركُ فيها الجميعُ دون الإستثناء بغض النظر عن كل عوامل الإختلاف سواء أكان طبيعياً أو مُصطنعاً ومن التجاربِ المثيرة للجدل هو الحبُ والبُعد العاطفي في حياة الإنسان إذ على الرغم من المساعي الكثيفة لإضاءة دوافع الحب وتحليله على المستوى النفسي غير أنَّ الأمر ظلَّ بمثابة لغزٍ في السلوك الإنساني.
ونعني بالحب هنا تلك العلاقة العاطفية التي تنشأُ بين الرجل والمرأةِ ولا يُمكنُ تفسيرها بناءً على الإحتياج الغريزى فقط أو نتيجة لتطور علاقات الصداقة لأنَّ الحب كما يقول  الكاتب الفرنسي جان دي لابويير، لا يبدأُ إلا بالحب. لذا ليس من المستغرب أن يتعاطى بعض الدارسين مع الحب بوصفه مشكلة وجودية كما فعل ذلك المُفكر المصري زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الحب" وبدوره فضلَ الكاتب العراقي علي حسين أن يكون عنوان كتابه الأخير عن التجربة العاطفية لدى ثلاثين شخصية من خلفيات ثقافية وفكرية وفنية متنوعة بصيغة سؤال "سؤال الحب من تولستوي إلى آنيشتاين" صدر عن "دار المدي 2018" كونَ الحبِ معادلة لا تقبلُ بإجاباتٍ مُختبرية لذلك ما برحُ السؤالُ بشأنِه مطروحاً علماً أنَّ ما يُتداولُ في المدونات الفلسفية والأطروحات العلمية حول الحب قد يفوقُ على ما تَمَّ تناولهُ بالنسبة لأي مفهوم آخر.
هذا فضلاً عن غزارة الأعمال الفنية والأدبية التي تُعبرُ عن لواعج الفُؤادِ والهيام في العشق. ولولا تذوقُ المُبْدعينَ لهذه التجربة الإنسانية الفريدة لما قُدر لنتاجاتهم التَمَيُز والريادة. إذاً يبحثُ صاحبُ "دعونا نتفلسف" في إصداره الجديد عن الحياة العاطفية لدى شخصياته المُختارة بدءاً من تولستوي مروراً بتشيخوف وبيكاسو وآنيشتاين وصولاً إلى الفنان العراقي جواد سليم.
من أوجه المفارقة في قصص الحب التي يضمها هذا الكتاب هو أنَّ العلاقة العاطفية قد تكون مصدراً للسعادة وتفتحُ صفحة جديدة في مسيرة المرء وتُغذي عبقرية الإبداع المُتمثل في فنون وأجناس أدبية مُتعددة، وربما يؤدي التعثرُ في الحب إلى التأزم النفسي لدى كبار المُبدعين كما وقع ذلك في حياة الرسام الهولندي فان كوخ. 

هناك مصادفات غريبة ورد ذكرها في هذا الكتاب منها تشابه نهاية الفنانة مارلين مونرو مع موت بطلة "مدام بوفاري" منتحرةً، وكانت هذه الرواية هدية آرثر ميللر في ميلاد نجمة هوليود.

ويقول فرويد عن معاناة صاحب لوحة "ليلة مُضيئة بالنجوم" إنهُ كان سيعيشُ أكثر لو نجح في الحب ويعزو سبب إنهياره إلى الفشل في العثور على رفقة أنثوية. إذ يتوقف علي حسين بالتفصيل عند هذا الفنان العبقري ضمن فصول كتابه حيثُ يستعيدُ في المقدمة مقولةً للمفكر الهندي نيسار كادتا مهراج "إنَّ الحياة هي الحُب والحُب هو الحياة" مُشيراً إلى أنَّ هذه العبارة قد أثارت إنتباههُ ومن هنا أراد أن يفتشَ عن سر الحب وأورد في السياق نفسه آراء أوفيد وهو يرى بأنَّ الحب هو الحياة كلها بعكس ما إقتنع به أبيقور فبرأيه أنَّ "الحُبَ ليس إلا زينة للحياة" وما نقله المؤلف من الفيلسوف الألماني هديغر الذي اعتقد بأن لا شيءَ يقودك إلى قلب العالم أكثر من الحب يشكف عن رؤية أوسع لهذا الموضوع لا تختلفُ كثيرا عن إيمان المتصوفة بضرورة التفاني في الحب قبل الوصول إلى الحقيقة.
يصْحَبُكَ الكاتب في القسم الأول من الكتاب في تتبعِ حياة الروائي الروسي تولستوى الذي يعترفُ بإقامة علاقات كثيرة مع النساء دون أنَّ تدومَ أي علاقة أكثر من أيام معدودة، وكان حذراً في مسألة الحُب والزواج إلى أن تعرفَ إلى سونيا ابنة لطبيب ألماني يترددُ على بيتهم ويقرأُ لهم أجزاءً من القصص، ومن ثُمَّ يعلنُ مؤلف "الحرب والسلام" عن مشاعره وبعدما يكللُ حبه برباط مُقدس يكتبُ في يومياته "حظُ من السعادة لا يُصدق" لكن الأمر لا يستمرُ على هذا المنوال، وتكدر الغيرة صفو الحب بين الاثنين. 
أما عن تمثلات الحب في مؤلفاته فقد استلهم تولستوي مادة رائعته "آنا كارنينا" من حكاية جاره مع امرأته التي أهملها من أجل مربية ألمانية، فما كانت من الزوجة إلا أن إختارت الإنتحار تحت سكة القطار.
وفي القسم الثاني يكون المتلقي أمام قصة تشارلز ديكنز مع النساء وإخفاقه في تجربة حبه لممثلة مسرحية تنصحه بالنسيان والبحث عن زوجة تناسبهُ كما يذكر الكاتبُ إعجاب ديكنز برواية "هلويز الجديدة" لجان جاك روسو، ناهيك عن الإلتفات إلى صعوده في عالم الأدب وإزدياد شهرته وكانت الإنطلاقة من لحظة وقوع نسخة من روايته بيد كاترين ابنة رئيس تحرير الصحيفة التي يعملُ فيها مندوباً. 

وتأتي حلقة أخرى عن ثنائية سارتر وسيمون ديبوفوار وإعترافات صاحب "الوجود والعدم" عن معاناته النفسية لإفتقاده إلى الوسامة إلى أن تحرر من هذا الشعور. أكثر من ذلك يُفرق سارتر بين الحُب والشهوة المكانيكية والإستعباد ويخبرُ صديقة دربه بأنَّ الحرية كانت تسبق الحب بالنسبة إليه وتمنى في حواره الأخير لو وضع الترتيبَ معكوساً. ومن جانبها تُضمنُ سيمون ديبوفوار كثيراً من آرائها بشأن الحب في رواية "المثقفون". 
هكذا تتواردُ آراءُ مشاهير الفكر والفن حول مفهوم الحب مُستوحين من مُعتركه نواةَ أعمالهم. وما رواية "الحب في زمن الكوليرا" للماركيز إلا صورةُ من تجربة الحب عاشها والداه. 
ويذكرُ ماركيز تأثره الشديد بعبارة شكسبير "الحبُ وحده، بقوته الجبارة يمكنه مُجابهة الزمن" مع تفاقم أزمته النفسية نتيجة إخفاقاته على المستوى العاطفي لكن ذلك لم يمنع فان كوخ من مواصلة الإبداع وإستلهام صورة المرأة التي أحبها في لوحاته 
"أورسولا". 
كما ألف تورغينف روايته "الحب الأول" عندما كان مُتيماً بالممثلة بولين، وكتب بول إيلوار أجمل قصائده بإيحاء عشقه لـ (غالا) كما أن مواطنه الفرنسي آراغون لم يرَ مستقبلاً خارج إليزا.
يشارُ إلى أن هناك مصادفات غريبة ورد ذكرها في هذا الكتاب منها تشابه نهاية الفنانة مارلين مونرو مع موت بطلة "مدام بوفاري" منتحرةً، وكانت هذه الرواية هدية آرثر ميللر في ميلاد نجمة هوليود.
أكثر من ذلك فإنَّ عدداً غير قليل من المبدعين وقعوا في غرام نساء أكبر منهم سناً (تشيخوف، أرنست همنغواى، ستاندال، هنري إبسن، شوبان) كما تجدُ مما يعرضُ نماذج من النساءِ أظهرْنَ قدرة فائقة على إدراك طبيعة الرجل وأبدينَ ذكاءً في مضمار الأدب؛ لعلَّ زوجة الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ هي أكثر ما تلفت إنتباهك، كذلك إيزابيل الليندي التي تعتقد بأن إستدامة الحب تعتمد إلى حد كبير على المرأة.
كما أن مي زيادة من صنف النساء الرائدات، وما كان بينها وبين جبران خليل جبران مثالُ للنقاء وللتلاحم بين الإبداع والحُب. ولا يمكن تصفح حياة طه حسين دون الإعجاب بسوزان التي أصحبت رافداً أساسياً لفكره وثقافته.
ملمحُ آخر من هذا المؤلف هو محاولة الربط بين الأعمال الإبداعية وتطور حياة أصحابها ودور التوتر العاطفي وانعكاساته في مستويات الوعي وتحويل التجارب الشخصية إلى قاعدةٍ في مُنجزاتهم إذ لا يخفى بعض الكتاب وجود ظلال التجارب الذاتية على شخصايتهم الروائية فكمال عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ يحمل كثيراً من خصائص شخصية صاحب "أولاد حارتنا" فضلا عن ذلك كان قسم من المبدعين يعوزهم إيجاد التوازن بين العملية الإبداعية والحياة العاطفية قد يكون بيكاسو في مقدمة هؤلاء حيث فاق اهتمامه بالإبداع على مجالات أخرى. 
ما تخلص إليه بقراءة هذا الكتاب الشيق أن أفق الحب يستحيلُ تجاوزه وإلا كيف تُفسر تماثل تجربة عالم مثل آنيشتاين مع مامر به شاعر هام على رأسه عشقاً.