سخرية سوداء..

في هجاء الابتذال

سخرية من قرار وزيرة الصحة المصرية بإذاعة عزف السلام الوطني

سعد القرش

لم أسمع السلام الوطني الهندي أو الهولندي في عدد من المهرجانات الدولية في البلدين. ولكني منذ 30 يونيو 2013، ألاحظ اقتران السلام الوطني في مصر بافتتاح أي نشاط ثقافي أو فني، أيا كان مكانه ومهما تكن طبيعته.

ولا تخلو هذه البدعة من دهشة مشاركين أجانب ينهضون مثلنا وقوفا، احتراما لتقليد لا يجدون له مثيلا في بلادهم، ولا يدل على زيادة في منسوب الوطنية، بقدر ما هو تزيّد يبلغ أحيانا درجة الإهانة لرمز البلاد، على عكس ما أرادت وزيرة الصحة بقرار ظننتُه، أول الأمر، سخرية سوداء يطلقها مهرّجون، فإذا هو واقع جديد يقرره مهووسون بالوطنية، في افتعال أشدّ خطرا من مرضى بهوس التشدد الديني.

 في فترة التجنيد بالقوات المسلحة، قبل نحو 30 عاما، علمونا أن سماع عزف السلام الوطني يقتضي الوقوف في وضع "انتباه"، دقيقة من الصمت الجليل تليق برمز يجب أن يكون في موضعه، بعيدا عن أي تكرار له دلالة الاعتياد.

والابتذال في اللغة يعني فقدان الاحتشام والتَّصوُّن، وقلة القيمة بسبب كثرة الاستعمال، وما يترتب عليه من استهانة. وقد شهدت مواقف كثيرة نالت من هيبة السلام الوطني، ففي افتتاح أي مهرجان يعزف السلام الوطني وسط حالة من الهرج، تشمل صخب الداخلين إلى القاعة، وبحث التائهين عن المقاعد، ورفع الأصوات بلغو لا يتهيّب معنى "بلادي بلادي".

 انتقل الهوس من قاعات المؤتمرات ومسارح المهرجانات إلى المستشفيات، وأعلن الثلاثاء 10 يوليو 2018 أن وزيرة الصحة هالة زايد قررت إذاعة السلام الوطني، صباح كل يوم بالمستشفيات، في عموم الجمهورية. وفي اليوم نفسه، ذلك الثلاثاء المزعج، أعلن عن العثور على أكياس بلاستيكية سوداء بالقرب من فندق يطل على الأهرام، وبها بقايا جثث ثلاثة أطفال.

 لا يتعلق النفاق بالحرص على إبداء المظاهر الدينية، وإنما بالمبالغة في الهوس الوطني أيضا، والأخطر من أيّ منهما منفردا هو الجمع بينهما، وليس مصادفة أن أغلب المسؤولين، الذين قبض عليهم متلبسين بالرشوة في الآونة الأخيرة، تعلو جباههم "علامة الصلاة"، وأمامهم على المكاتب مصحف، وخلفهم علم مصر، ولا توضح الصور ما إذا كانوا حريصين على تشغيل أسطوانات هتافات تعبوية وطنية مثل "وقالوا إيه"، وهو نشيد سلاح الصاعقة الذي عمّم على المدارس، وردده صغار أبرياء ألبسوهم الزي العسكري في طابور الصباح.

 يعاني القطاع الصحي من الفقر والإهمال، وكان من مطالب الأطباء الفرحين بثورة 25 يناير 2011 أن تتضاعف ميزانية وزارة الصحة، لكي يجد الفقراء علاجا يحفظ كرامتهم، فلا يفيد مريضا أن يسمع السلام الوطني وهو يفترش الأرض، في انتظار خلوّ سرير من مريض مات إهمالا أو كمدا. ولا أظن وزارة الصحة أو أيّ جهاز أمني قد تلقى شكوى طبيب أو مريض يطالب بحقه في سماع السلام الوطني، بدلا من خدمة صحية آدمية. فلماذا الإصرار على الابتذال؟

 يوم الأربعاء 11 يوليو، في الصباح الأول لسريان الفرمان الذي له واجهة وزارية، شاهدت مقطع فيديو من مستشفى، كان البهو مزدحما بممرضات ومواطنين، يصفقون ويضحكون ساخرين، ويصور بعضهم بعضا على خلفية عزف السلام الوطني، وانخرط رجل يرتدي جلبابا بلديا في رقصة رقيعة وقد حزّم وسطه، وتجاوب معه من تجاوب بالرقص ملوّحا بعلم مصر. بؤس يستدعي شهادة المتنبي "وكم ذا بمصر من المضحكات"، ويدعوني إلى الترحّم على صلاح عبدالصبور القائل:

يا أهل مدينتنا

هذا قولي

انفجروا أو موتوا

رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجيء.