الترميم لم يعد ناجعا

معضلة الأزهر في البقاء خارج السياسة

تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يتم من خلال رجال الدين فقط

أحمد حافظ (القاهرة)

ستظل أطروحات تجديد الخطاب الديني مجرد مسكنات “سياسية” تظهر مع كل عملية إرهابية دون أن ترتقي إلى مستوى الطرح الجاد، رغم أهميته، ما لم يتم التوغل في حقول الألغام المحيطة بهذا الطرح.

تأتي في صدارة هذه الحقول مؤسسة الأزهر بكل فروعها، وبما تحمله من ثقل محلي وإقليمي وعالمي، ومن بعد ديني واجتماعي وتعليمي وسياسي.

والارتقاء بفكرة تجديد الخطاب الديني من بعدها السياسي إلى بعدها الفكري والحضاري يعتبره النائب المصري محمد أبوحامد مغامرة تحتاج قيادات لديها القدرة على التحلي بالشجاعة لمواجهة تركيبة متغلغلة في عمق المجتمع المصري وجذورها تمتد إلى الخارج.

وسطع نجم أبوحامد، عضو مجلس النواب المصري، وصاحب الكلمة القوية في ائتلاف دعم مصر الحاصل على الأغلبية البرلمانية، في الآونة الأخيرة على الساحتين السياسية والدينية، بعدما دخل في المنطقة المحظورة وقرر هدم المعبد على هيئة كبار علماء الأزهر، بإعلانه التقدم بتعديل جذري في قانون الأزهر، بما يسمح لرئيس الجمهورية اختيار أعضاء الهيئة، وما يعني تغيير الوجوه الحالية التي تمثل أكبر قوة دينية في الأزهر، وهم أعضاء هيئة كبار العلماء.

جبهة صدام ضرورية

يتحرك وكيل لجنة التضامن الاجتماعي بالبرلمان، في هذا الملف الشائك بدعم قوي من بعض النواب الذين لهم كلمة مسموعة داخل البرلمان، وهو يدرك أنه فتح جبهة خطيرة من الصدام مع المؤسسات الدينية المختلفة، وفي مقدمتها الأزهر، إلا أنه يؤكد أن المعركة قادمة لا محالة وأنه سوف يكون في مقدمة الصفوف التي تحارب ضد الأزهر.

حاورت “العرب” النائب محمد أبوحامد، بخصوص الهدف من وراء إقحام نفسه والبرلمان في هذا الحقل الملغوم، فقال إنه يرى ضرورة أن “لا يستمر تقديس قيادات مؤسسة الأزهر، لأنه طالما استمرت هذه العقيدة راسخة عند المجتمع والنخب وحتى الحكومة ذاتها، فلن يتغير من الأمر شيء، وسوف يدفع الجميع فاتورة هذا الصمت على تراخي أداء الأزهر”.

تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يتم من خلال رجال الدين فقط دون الاستعانة بمن هم على دراية بالنواحي الحياتية والمنخرطين في المجتمع بشكل أعمق

واعتبر أبوحامد أن “فلسفة تجديد الخطاب الديني واقتحام الملفات الدينية بشجاعة متناهية تتطلب قيادات لديها القدرة على التحلي بهذه الشجاعة دون تراخٍ، وبالتالي فإن الأمر يتطلب حتمية اختيار شخصيات تكون على مقربة من الأزمات الاجتماعية والدنيوية إلى جانب خبراتها وعقيدتها الدينية لتتولى هذا الملف، الذي لا يخص مصر وحدها بل العالم أجمع”.

وفي مناسبات عديدة، طالب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قيادات المؤسسات الدينية بسرعة التدخل لوضع إطار عام يتم من خلاله اتخاذ خطوات جادة وفعلية لتطوير الخطاب الديني لمواجهة تمدد الأفكار المتطرفة، لكن لم تحظ دعوات السيسي بقبول واقعي لدى قيادات الأزهر، كما لم يتجاوز الرئيس المصري عتبة الطرح.

ورغم أن ما تقدم به النائب أبوحامد لا يفصله المتابعون عن اللعبة السياسية والمد والحجز في العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، إلا أن طرحه يلامس الإشكالية بعمق وواقعية لا يمكن إنكارهما.

أغفل أبوحامد دور الدولة في تغوّل سلطة الأزهر وتسييسه وفقدانه لاستقلاليته كمؤسسة دينية، منذ أن استعان به جمال عبدالناصر لدعم رؤيته وتوجهاته الأيديولوجية.

وتحولت المؤسسة إلى واجهة دينية للمؤسسة الرسمية السياسية، إلا أنه يلامس الصواب بقوله إن من أسباب التراخي في عملية تجديد الخطاب الديني أن “الكثيرين داخل هيئة كبار العلماء لا يعرفون متى يبدأون تطوير الخطاب الديني ومن أين ينطلقون؟ ويخشون الدخول في نقاط شائكة، وبالتالي فهم يؤجلون هذه المرحلة إلى أكثر قدر ممكن في محاولة لإظهار استقلالية الكيان وهذا فهم خاطئ استمراره كارثي”.

أزمة هيئة كبار العلماء

يصنّف النائب أبوحامد من جانب بعض شيوخ السلفية، ومن لهم تطابق فكري وعقائدي مع بعض الأزهريين، على أنه يتحرك ويتحدث بلسان أقباط مصر، وذلك في محاولة لإدخال معركته مع الأزهر أو أي قضية دينية على أنها طائفية بالأساس ولا علاقة لها بمواجهة التطرف والتشدد الديني، ويدللون على ذلك بأنه من أشد المؤيدين لتولي قبطي لرئاسة الجمهورية، بعكس توجه سلفيين وأزهريين بارزين.

ولُقّب بـ”ابن ساويرس”، في إشارة إلى الملياردير المصري ورجل الأعمال نجيب ساويرس، مؤسس حزب المصريين الأحرار. وكان أبوحامد واحدا ممن كتبوا برنامجه الخاص وحددوا توجهاته السياسية والحزبية. وشغل منصب نائب رئيس الحزب. ونجح من خلاله في دخول برلمان الإخوان عن دائرة قصر النيل بالقاهرة في العام 2012.

محمد أبوحامد: هيئة كبار العلماء بالأزهر لا تريد أن تقتنع بأن الزمن قد تغيّر وحياة الناس اليوم تختلف عن الماضي

ويفسّر النائب المصري هذه التلميحات بأنها “بداية لما ستؤول إليه المعركة المقبلة مع تجديد العلماء قبل تجديد الخطاب. وهذا متوقع من بعض أنصار استمرار الوضع القائم كما هو عليه. لكن الحديث عن وجود علاقة بالدفاع عن الأقباط بأنه مبرر لاقتحام المشكلات داخل الأزهر، أمر مضحك، لأن نتيجة الصمت عن الأفكار الشاذة والمتطرفة تقتل المسيحي والمسلم معا”.

ويقول عن نفسه “أتحرك في هذا الملف بقناعة ثابتة، وهي لو أردنا معالجة المشكلات الدينية على أرض الواقع، فلا بد أن يبدأ الأمر من حوكمة الأزهر والمؤسسات التابعة له، بحيث تدخل في إطار هذه الحوكمة طريقة اختيار شيخ الأزهر والعلماء، لأن استمرار فكرة سيطرة التخصص الديني وحده على هيئة كبار العلماء، يزيد الوضع تعقيدا”.

ويضيف أبوحامد أن “هيئة كبار العلماء بالأزهر لا تريد أن تقتنع بأن الزمان قد تغيّر، وحياة الناس قد اختلفت عن الماضي. الموجودون حاليا ويديرون الأزهر لديهم مشكلة حقيقية مع الواقع نفسه، فهم منخرطون في شؤون دينية بحتة، وتجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يتم من خلال رجال الدين دون الاستعانة بمن هم على دراية بالنواحي الحياتية والمنخرطين في المجتمع بشكل أعمق، وليس أن يكون هناك إجماع لآراء العلماء والنتيجة صفر”.

يعرف عن النائب محمد أبوحامد أنه دارس وقارئ جيد لشؤون الأديان. وعلى مدار سنوات، اهتم بنقد وتحليل مختلف المدارس الإسلامية. وحصل على إجازات متنوعة في الشريعة الإسلامية منها إجازات في علوم القرآن والتفسير وأسس الفقه ومنهجيته، وهو ينتمي إلى مدرسة الإسلام الفلسفي التي أسسها ابن رشد وأحياها في العصر الحديث محمد عبده.

وبحسب حديثه مع “العرب”، فإن ما يعطي له ميزة إضافية فيما يصبو إليه هو أن “لديه أسانيد تبدو قوية للرد على من يحاولون إثناءه عن قضية تعديل آلية اختيار شيخ الأزهر والعلماء، وتكفي المجاملات التي تحدث بين الطرفين، فالعلماء هم من يختارون الإمام، والإمام هو من يختار هيئة العلماء، وبالتالي فالمنفعة مشتركة، ومؤكد أنه يختار الهيئة بما يتوافق مع فكره ومذهبه”.

ومثال ذلك، وفق أبوحامد، أنه لو كان شيخ الأزهر مذهبيا سوف تجد كل من حوله داخل هيئة كبار العلماء مذهبيين، ولو كان شافعيا سيكونون شافعيين، إذن هناك جمود فكري عند نقطة واحدة لا تتغير، وبالتالي ما دام الإمام له رأي بعينه فلن يعارضه أحد وكأنّ رأيه مقدس بالنسبة إليهم وإلى المجتمع وإلى العالم، ما يجعل من تغيير هذه الفلسفة أمرا حتميا.

لكن اختيار التوقيت للدخول في معركة البقاء مع هيئة كبار العلماء وإمام الأزهر نفسه، يثير علامات استفهام كثيرة حول ما إذا كان تحرك أبوحامد نحو تعديل قانون الأزهر بما قد يقصي الوجوه الحالية، جاء بإيعاز من دوائر داخل الحكم، لا سيما بعد موقف الهيئة والإمام من قضية الطلاق الشفهي ورفضهما لأن يكون التوثيق شرطا لوقوع الطلاق مثل ما دعا إلى ذلك رئيس الدولة. حتى أن هيئة كبار العلماء دخلت في معارك دينية صريحة مع وزارة الأوقاف لإرغامها على التراجع عن تعميم الخطبة المكتوبة وإلغاء منح الترخيص كشرط اعتلاء الأزهريين للمنابر، وجرى تصعيد الأمر إلى مؤسسة الرئاسة التي انحازت إلى الأزهر حتى لا يُفهم من ذلك أن غضب عبدالفتاح السيسي من تراخي المؤسسة الأزهرية في حل المسائل الدينية الشائكة حيّده عن إنصافها وتقوية نفوذها.

لكن أبوحامد نفى عن نفسه تهمة التوجيه من جانب الدولة لإعادة هيكلة الأزهر وعلمائه تمهيدا لهيكلة أفكاره، موضحا أن “الأمر كان بحاجة إلى وقفة برلمانية مع هذه المسألة، ولا يمكن أن يستمر الأزهر في عناده مع الوضع القائم دون تغيير، بل إن الأمر وصل إلى حد تسييس آرائه في بعض القضايا الحياتية وآخرها الطلاق الشفهي، وبدا وكأنه يتحدى رئيس الدولة ومعارضيه، ما يضفي صبغة الدكتاتورية على آرائه”.

لو أردنا معالجة المشكلات الدينية على أرض الواقع فلا بد أن يبدأ الأمر من حوكمة الأزهر والمؤسسات التابعة له بحيث تدخل في إطار هذه الحوكمة طريقة اختيار شيخ الأزهر والعلماء

الصدام مع المعارضة

منذ انخراطه في العمل السياسي، يهوى أبوحامد الدخول في معارك تتعلق بالحقوق والحريات الدينية، وحقوق الإنسان ويؤمن بحرية الصحافة والتعبير والإبداع وتمكين الهوية المصرية، لذلك يصنّف توجهات المؤسسات الدينية على أن بعضها “ضد الديمقراطية” وحقوق الإنسان في الإبداء برأيه الديني الذي يختلف مع رأي الأزهر.

ويقول “أؤمن تماما بأن تعديلات قانون الأزهر سوف تلقى قبولا واسعا داخل البرلمان، لأن عقلاء المجلس يدركون جيدا أن التغيير في الخطاب الديني لن يحدث قبل تغيير القيادات الدينية الحالية، وإدخال شخصيات تختلف معهم في الفكر والرؤى والتخصص للوصول إلى دين عصري يواكب الزمن ويتواءم مع الحياة التي يعيشها الناس في العصر الحديث”.

ويرى أبوحامد أن أكبر مشكلة يعانيها الأزهر حاليا أنه “لا يستمع لأحد ويدرك أن قياداته مقدسة وآراؤها لا تقبل الخطأ أو التصويب، ولا توجد لديه نية لسماع الطرف الآخر، حتى مناهجه التي يوجد فيها ما يحض على التطرف، لكنه يراها بعكس ما ينظر إليها المجتمع بأثره متحضرة ومتسامحة ولا غبار عليها”.

أما قياداته “فهم يهاجمون الناس ليحموا أفكارهم التي يؤمنون بها، ودليل ذلك البيان الذي صدر مؤخرا حيث هاجم فيه مختلف فئات المجتمع لرفضهم رأي الأزهر في مسألة الطلاق، كما أن البعض الأزهريين لهم توجهات سياسية متطرفة تتعارض أساسا مع النظام”.

وبالتالي، فإن مخطط إعادة هيكلة الأزهر، سوف يبدأ من خلال ضخ دماء جديدة في هيئة كبار العلماء، لها آراء فقهية وفكرية وتخصصات مختلفة، وهؤلاء يختارون شيخ الأزهر في المستقبل، ومن ثم فإن إعادة هيكلة الأزهر كمؤسسة سوف تبدأ من خلال البرلمان بإقرار تعديل قانونه والموافقة عليه ورفعه إلى رئيس الجمهورية للتصديق عليه.

واستطرد أبوحامد في ختام حواره موضحا أنه “قبل أن يفسّر الأزهر توجه البرلمان بأنه موجّه للتخلص من شخصيات بعينها، عليه أن يدرك أن صوت المطالبة بإصلاحه لم يعد قاصرا على نواب البرلمان أو المجتمع المصري، بل إن هناك مطالبات عربية وعالمية بسرعة هيكلة وتحديث آلية التفكير والتحديث داخل الأزهر باعتباره المؤسسة الدينية الأهم في العالم، لأجل أن تكون هناك وقفة جادة وحاسمة مع القضايا الدينية الشائكة ومن ثم مواجهة التشدد والتطرف الديني والفكري”.