الهجرات العربية الأولى وصلت اليوم إلى جيلها الرابع

حكايات عربية في مجاهل أميركا اللاتينية

عوالم أميركا الجنوبية بأعين عربية (لوحة للفنان نذير إسماعيل)

عبدالله مكسور (القاهرة)

تنطلق غدير أبوسنينة من فلسطين دائماً في كل رحلاتها، فهي نقطة الارتكاز لديها باعتبارها الهوية الأولى التي تحملها أينما حلَّت، هكذا تغدو عوالم الرحلات التي تقوم بها في الشرق والغرب حالة استثنائية تختلف عن الرحلات الأخرى.

قصص متداخلة

المكان ليس بطلاً في حكايات أبوسنينة، إنَّهُ ذلك الحيِّز من الفضاء الذي تدور في أرجائه حكايات الأبطال الأصليين الذين لا تعنيهم كثيراً فكرةُ تغييره أو التأثير فيه، وبالتالي فإن أبطال رحلات غدير أبوسنينة هم في الأصل جزء أصيل من المكان في فضاءٍ ما وهامشٌ في فضاءٍ آخر. هكذا تبني الكاتبة عوالم أميركا اللاتينية في كتابها “إخوتي المزينون بالريش” بدءاً من نيكاراغوا مروراً بتشيلي والسلفادور وغيرها، تسير مقتفيةً أثر “الأتراك” الذين هم بطبيعة الحال عربٌ وصلوا إلى القارة الأميركية اللاتينية عندما كان العربُ جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. فقد دخلوا هناك بجوازات تركية وصار يطلق عليهم الأتراك، في هذه الثنائية من الانتماء الذي يحمل وجهَين في آنٍ واحد ضمن أحياء المدن والأرياف، تروي أبوسنينة رحلاتها وخلاصة معارفها في اكتشاف تلك البلاد طيلة أربعة عشر عاماً.

في كتاب يومياتها تعتني غدير أبوسنينة بأبطالها الضائعين أكثر من المكان، وكأنهم على مسرح فرض عليهم

“إخوتي المزينون بالريش” الفائز بجائزة ابن بطوطة للرحلة العربية في دورتها الحالية 2017، تعتني فيه أبوسنينة بأبطالها أكثر من المكان، وكأنهم على مسرح فُرِضَ عليهم فكانوا جيلاً ثالثاً أو رابعاً لأجدادٍ وصلوا حاملين أحلام المستقبل فضاعوا في زحمة الحياة، بعضهم انتصر على كل العقبات وبعضهم الآخر صار جزءاً من مكنة الحياة الجديدة، قصصٌ تتداخل مع بعضها البعض لتُشكِّلَ اللوحة الكلية، فالتداخل بين تلك الحكايات جاء في بعضه مدروساً وفي بعضه الآخر مفتوحاً على المجتمع الجديد باعتباط الاكتشاف، كسائحٍ قرر فجأة السفر إلى مدينة لا يعرف شيئاً عن ملامحها.

أبوسنينة في حياتها الواقعية بعيداً عن الأدب تنتهج مسار سائحة، هي لا تستعجلُ الدهشة بالأشياء، استنتاجاتها تسبقُ تاريخ الأمكنة، تعتمد على أبسط الطرق في الولوج إلى الفضاءات الجديدة، فهي تعتمد نمطاً مختلفاً في كتابة رحلاتها، هذا ظاهرٌ بشكل واضح في كتابها الأخير. لا تزيِّنُ الكاتبة عملها ببناء روائي خاص، إنما تغدو الحكاية لديها مبنية على تفاصيل تشويق اكتشاف ملامح الأبطال باعتبارهم الأجزاء المتحركة من المكان الثابت، لهذا تبني عملها على شكل تقرير صحافي موسَّع ينحو باتجاه الصحافة الاستقصائية البحثية، لا نتائج ترجوها من هذه الحكايات على خلاف التقارير الاستقصائية، بل تهدف الكاتبة من خلالها إلى وضع الصورة الكاملة الغائبة في بعضِ أجزائها أمام أعين القارئ الذي يدور في أفلاك المكان كسائحٍ جاء للتعرف على ثقافة أخرى.

اليوميات تكتب التاريخ الموازي غير المعلن

اكتسبت الكاتبة هذه التقنية من معرفتها باللغات الأخرى فهي تتحدث الإسبانية وتترجم منها وإليها، كما تتحدث الفرنسية حيث درست في إحدى الجامعات الفرنسية برنامجاً للغة امتد عاماً كاملاً، معرفتها ببناء الجملة في تلك اللغات انعكس واضحاً في البناء اللغوي لنصِّها الجديد، فغابت اللغة الشاعرية وحلَّت مكانها اللغة التقريرية الانسيابية التي تحمل الحدث دون إغراق في الوصف الجغرافي.

اليوميات والتاريخ

كتابة اليوميات في “إخوتي المزينون بالريش”، جاءت انطباعية مبنية على المعرفة التامة بخفايا المكان، فتغييب بعض القصص كان متعمّداً وكأنَّ الكاتبة تترك مساحة حرَّةً لقارئٍ يودُّ اكتشاف تلك العوالم بنفسه، فانطلقت في دوائر البناء السردي وفق مسارات مرسومة بدقة، أبرزها المربيَّة والمساعدة المنزلية “جوهانا” التي كانت جسر التواصل بين ثقافتين، فكانت الحكايةُ من خلالها تنتقل إلى العوالم الماورائية لتتحدَّث عن الخرافة والأساطير الشعبية المنقولة شفهياً، بينما أتت الصور الأخرى على شكل قصص نجاح وإخفاق للجالية العربية في أجيالها المتلاحقة هناك.

هل تكتب غدير أبوسنينة في يومياتها التاريخ؟ قطعاً لا يمكن اعتبار يوميات الرحلة وثيقة تاريخية، إنها وثيقة تمثِّل وجهة نظر صاحبتها التي كتبَت التاريخ الموازي أو المتواري خلف التاريخ المكتوب أو المُعلَن، لهذا نجد بين طيات الكتاب جنوحاً واضحاً نحو استخدام أفعال التأكيد الذاتي الفردي، مع الالتزام التام بذكر بعض اللمحات التاريخية عن الأمكنة، هذه المعلومات جاءت على شكل إيضاحي لإعطاء المكان بُعدَهُ الثالث بَعد الجغرافيا والإنسان.

شكل الرحلة في ربوع نيكاراغوا وبين تفاصيل سكانها لم يأتِ على حالة الاغتراب التي يعيشها الرحالة الكاتب، بل أتى منسجماً في محاولة اكتشاف تلك العوالم وفق صيغة سردية اقتربت من البناء الروائي والتزمَت أكثر بالتقنيات الصحافية التي تتقنها غدير أبوسنينة، تلك الأدوات استخدمتها الكاتبة لسبر مجاهيل نيكاراغوا أمام القارئ العربي، ولتضع عصارة أربعة عشر عاماً من المعرفة التراكمية في خزانة الرحلة العربية.