تعسف واضطهاد للأطفال..

"بابا" و"ماما" لغير الأبوين الحقيقيين

توجد مجموعة من التدابير العملية للحفاظ على مكانة الأهل الحقيقيين

لمياء المقدم

حدثني صديق برلماني هولندي من أصل مغربي عن علاقته بأيام الطفولة التي قضاها في المغرب، على هامش إصداره لكتاب يتحدث عن سيرة حياته، قائلا إن أقسى الذكريات التي تلاحقه منذ الطفولة هي تلك المتعلقة بأمه التي ماتت وهو لا يزال في الرابعة أو الخامسة من عمره ليتزوج والده من امرأة أخرى أجبر على مناداتها بـ”ماما”.

يشعر أحمد مركوش، الذي أصبح منذ عام أو يزيد عمدة لواحدة من كبريات المدن الهولندية، بألم عندما يتذكر هذه المرحلة، ومصدر الألم ليس في موت الأم فحسب، وإنما بسبب المحاولات القاسية والمستميتة من والده لجعل الزوجة الجديدة تحل محلها وتأخذ مكانتها لدى الأولاد، فلم يكن اسمها يذكر ولا ذكراها تحيا، وأعدم في البيت كل ما كان يحيل إليها أو يذكر الأبناء بها. ويعتقد صديقي هذا أن نية والده كانت حسنة فقد كان يطمح لإيجاد “أم بديلة” للأولاد تحل محل أمهم وتنسيهم حرمانهم منها، غير أن النتيجة كانت عكسية تماما، ليس فقط لأن المرأة الجديدة عجزت عن أخذ مكان الأم، وإنما أيضا لوجود “مقاومة داخلية” من قبل الأبناء وإحساس بأن الأم تعدم في موتها، وهو الإحساس الذي خلف لديهم مرارة رافقتهم مدى الحياة.

بعد انتقاله للعيش في هولندا، دخل مركوش المدرسة لأول مرة وهو في عمر الـ13 عاما، وألحق بالتعليم المهني نظرا لتقدمه في العمر، غير أنه تمكن بكفاحه وإصراره من استكمال تعليمه وقطع مشوار مهني مدهش أوصله إلى البرلمان الهولندي ومنه إلى عمدة لمدينة هولندية. وعندما كبر وتقدم به العمر، لم يعد مركوش قادرا على مناداة زوجة أبيه بأي شيء، ولا حتى باسمها.

والحقيقة فإن كل محاولة لأخذ مكان الأبوين الحقيقيين تنتهي بالفشل دائما تقريبا، وإن نجحت فهي محاولة غير شريفة عكس ما قد يبدو.

مرة أخرى يتأكد لي هذا، على إثر تعرفي على طفلة لاجئة سورية تنادي زوج أمها بـ“بابا”، الأمر الذي أدهش المشرفين، ودعاهم إلى التدخل من أجل الإحاطة بالملابسات التي أدت إلى “طمس” الأب الحقيقي للفتاة، وأدهش الفتاة أيضا التي لا تفهم سر تعجب الهولنديين من هذا الوضع وشكهم فيه.

على عكس ما هو سائد في الثقافة العربية التي تشجع على جعل زوج الأم يحل محل الأب، أو زوجة الأب تحل محل الأم، وتبتهج لسماع الأبناء ينادون زوج أمهم بـ”بابا” أو زوجة أبيهم بـ”ماما”، معتبرة ذلك علامة على حسن المعاملة والود والتقارب، فإن الثقافة الغربية حذرة جدا في ما يتعلق بهذه النقطة وتجد في هذا السلوك نوعا من الاعتداء على الأطفال، وعلى حقهم في الاحتفاظ بمكانة الأب والأم الحقيقيين، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، وقد تذهب إلى اعتباره سوء معاملة مقصودة للأطفال، خصوصا وأن التغييب المتعمد لأحد الأبوين يبدأ من حظر تداول اسمه داخل البيت أو الإشارة إليه.

توجد مجموعة من التدابير العملية للحفاظ على مكانة الأهل الحقيقيين، في حالات الطلاق والوفاة، من بينها مثلا أن زوج الأم أو زوجة الأب غير مرغوب فيهما لحضور اجتماعات المدرسة الخاصة بالأبناء، كما لا يحق لهما التدخل في تقرير مصير الأبناء أو إعطاء رأيهما في قرار طبي خاص بهم، فضلا عن تدابير وإجراءات أخرى تخص الأبوين الحقيقيين بالوصاية وحق تقرير المصير.

زوجات الآباء أو أزواج الأمهات، لهم أيضا مساحة خاصة في حياة الأبناء، تتيح لهم المشاركة في أعياد ميلادهم واحتفالات نجاحهم وزواجهم، والسفر والتنقل معهم والعيش كأسرة عادية ومتكاملة، إلا أن الخط الرفيع والصارم بين حقوقهم وحقوق الآباء الحقيقيين يظل مقدسا، ولا سبيل للتعدي عليه بأي شكل من الأشكال، حفاظا على سلامة الأبناء النفسية وتنشئتهم التنشئة السليمة.