عمليات فساد كبيرة..

فضائح وانتهاكات تلاحق الجمعيات الخيرية

ما قيمة التبرع إذا لم يرسم ابتسامة على وجه طفل جائع

يمينة حمدي

يرافق الدعايات التي تقوم بها الجمعيات الخيرية من أجل تحفيز الناس على التبرع لصالح المحتاجين وضحايا الحروب والكوارث، الكثير من الجدل حول المستفيدين الحقيقيين من تلك التبرعات.

وفيما تشتكي عدة جمعيات من قلة التمويل الحكومي وانحسار التبرعات، وتوقف أخرى مساعداتها للفئات التي تستحق الدعم في الدول الفقيرة ومناطق الصراعات، ما زالت الشكوك تحوم حول ضلوع بعض الجمعيات في ضخ أموال للجماعات المتشددة، علاوة على الفضائح الجنسية التي تورط فيها موظفوها.

وواجهت الكثير من الجمعيات عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 اتهامات بدعم التنظيمات الإرهابية، ودفعت هذه الشكوك الدول إلى مراجعة أنشطة المنظمات غير الحكومية فيها، وإغلاق عدد كبير منها، لكن الإشكال الذي ما زال يواجه سلطات مكافحة الإرهاب في بعض البلدان، هو كيفية التدقيق في النشاط المالي للجمعيات.

ويحذر الخبراء من أن تتسرب الأموال إلى الإرهابيين عبر الثغرات الموجودة في النظام الذي يحكم عمل الجمعيات الإنسانية، لتصب في مصلحة أغراض أخرى بعيدة كل البعد عن الأعمال الخيرية، منوهين إلى أن المتبرعين لصالح الجمعيات الخيرية قد يصبحون أيضا متهمين بدعم الإرهاب، حتى وإن كانت غايتهم مساعدة المحتاجين.

أسماء عبيد: بصفتي رئيسة فريق تطوعي علمت بوجود بعض الأشخاص ممن استغلوا جزءا من التبرعات التي بلغتهم لمنافع شخصية

بينما تصر الجمعيات على أن أعمالها قانونية وأن الإشاعات التي تحوم حول أنشطتها المالية ساهمت في انحسار التبرعات، ما جعل عملها أكثر صعوبة من ذي قبل.

وفي السنوات الأخيرة تعرضت بعض الجمعيات الدولية إلى الكثير من الانتقادات على خلفية ادعاءات بممارسة موظفين فيها لاعتداءات جنسية.

وواجهت منظمة أوكسفام الخيرية البريطانية أزمة بسبب إخفائها نتائج تحقيق عن قيام بعض العاملين فيها باستجلاب بائعات هوى خلال عملهم في تسليم مواد الإغاثة الإنسانية في هايتي في عام 2011.

وكشفت تحقيقات دولية عن عمليات فساد كبيرة وسرقة للمساعدات الإنسانية وتلاعب بالإحصاءات فضلا عن انتهاكات جنسية في مخيمات للاجئين.

وكانت صحيفة صنداي تايمز البريطانية قد انفردت بنشر تقرير يتحدث عن ابتزاز نساء في جنوب سوريا جنسيا مقابل تقديم مساعدات المنظمات الإنسانية إليهن.

وليست هذه الفضيحة حديثة العهد، بل يعود تاريخها إلى ثلاث سنوات مضت، عندما نبهت منظمتان تعملان في مجال الإغاثة الإنسانية إلى وجودها.

غير أن الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة التابعة لها نفتا وقتها علمهما بوجود حالات استغلال جنسي للسوريات من قِبل عمال محليين تابعين للمنظمات الشريكة في المنطقة.

وفي السياق ذاته نشرت صحيفة ميل أون صنداي تحقيقا كتبه موفدها إلى أوغندا، إيان بيرَل، يكشف فيه عن عملية فساد كبيرة في توزيع المساعدات الإنسانية هناك.

الهيمنة السياسية على المنظمات

اعتبر الشريف محمد المفتي الحسني الأمين العام للعصبة الهاشمية المقيم في بريطانيا، أن الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني مكون رئيسي في النسيج الاجتماعي للبلدان، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال التغاضي عن الخدمات الكبيرة التي تضطلع بها في سبيل النهوض بالمجتمعات وتحقيق التنمية المستدامة.

وقال المفتي لـ“العرب” “كان للجمعيات دور فعال في الحفاظ على التراث الإنساني ومراكمة الإرث الحضاري للشعوب والأمم مثلما كان لها دور فعال في تطوير التعليم و التدريب والتأهيل وتحفيز الموارد البشرية وتطوير الموارد الطبيعية في مختلف الدول”.

وأضاف “أسهمت مؤسسات المجتمع المدني في تحفيز المبدعين وتطوير قدراتهم في شتى المجالات الاجتماعية والثقافية والتنموية مما شجع العديد من التجمعات السكانية في مختلف الدول على تأسيس الجمعيات لتنهض بمجموعة قيم مجتمعية نبيلة وسامية، ثم بدأت هذه المؤسسات تأخذ طابعا خيريا وتحصل على تراخيص من الحكومات لهذا الغرض”.

واستدرك “لكن لدى انتباه السلطات المختلفة لفعالية ونجاح الجمعيات بدأت الحكومات تستهدفها كاستهدافها للأفراد وطاقاتهم وثرواتهم في سبيل تنفيذ السياسات الحكومية”.

وأوضح المفتي “نتيجة انحراف بعض حكومات الدول عن شفافية وعدالة المعايير وبسبب التجاذب والتنافر الدولي وسياسة الاستقطاب الدولية، بدأت حكومات العالم تستخدم هذه المؤسسات والجمعيات الخيرية كواجهة لأهدافها السياسية والاجتماعية والثقافية”.

وواصل “استغلت بعض الجمعيات الحوافز المادية التي تحصل عليها لتنخرط بدورها في سياسات منحرفة وبعيدة كل البعد عن الأهداف النبيلة التي أنشئت من أجلها، مثل تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتشجيع التطرّف وإذكاء النزعة الإقليمية والطائفية وإثارة النزعات الإثنية البغيضة والعنصرية، وكل ذلك يحدث تحت غطاء إنساني وخيري اجتماعي وثقافي، في حين تواجه الجمعيات التي تلتزم بمبادئها النبيلة والسامية الإفلاس والتهميش”.

وشدد على أهمية اندماج مؤسسات المجتمع المدني في إطار اتحادات كبرى، حتى تتمكن من نَيْلَ استقلالها كمنظمات غير حكومية، وتتخلص من الهيمنة السياسية على أنشطتها، فتكون بذلك قادرة على خدمة أهدافها الاجتماعية والتنموية والاقتصادية بشكل بناء بعيدا عن ازدواجية المعايير.

وقال المفتي في خاتمة حديثه “ينبغي الدفع باتجاه أن تكون هذه الجمعيات سلطة مكونة ومنصوصا عليها في دساتير الدول، لتصبح بالتالي كالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، حتى لا تبقى مطية لتنفيذ سياسات وبرامج لا إنسانية، تحت الغطاء الإنساني الخيري”.

صلاح الدين رجب: الأنانية تغلغلت، والكثيرون يعتقدون أن مساعدة الفقراء من مشمولات الحكومات

العمل الخيري الفردي

لا ينكر الكثيرون ممن تحدثت إليهم “العرب” أن العديد من الجمعيات قد أنجزت أعمالا خيرية كبيرة على مدار عقود طويلة، من خلال المساهمة بالملايين من الدولارات في مساعدة فئات عديدة في العالم تستحق الدعم، إلا أن الخوف من ممارسات الاحتيال أو ذهاب التبرعات إلى غير مستحقيها جعل البعض يفضل العمل الخيري الفردي على العمل الذي يأخذ شكلا مؤسساتيًّا.

واعتبرت الصحافية التونسية هاجر العيادي أن الإيثار وفعل الخير من الصفات الطبيعية الثابتة في البشر، التي لا يمكن أن تتلاشى حتى في أحلك الظروف التي تمر بها بعض المجتمعات حاليا.

وقالت العيادي لـ“العرب” “لا أحبذ التعامل مع الجمعيات والمنظمات، بل أفضّل تقديم المساعدات للمحتاجين بشكل مباشر، وذلك بسبب الشعور المختلف الذي أحصل عليه عندما أدرك أن مساعداتي قد استفاد منها من يستحقها فعلا، ولم تذهب لأغراض أخرى لا تخدم المصلحة العامة للفقراء في أي شيء”.

وأضافت “كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف بنفسه ليلا ليسد رمق المحتاجين، واعتقد أن الدنيا ما زال فيها الخير حتى في زمننا الحالي الذي غلب عليه الصراع من أجل المصالح الشخصية، لكن المشكلة المطروحة هي أن ثمة جمعيات قد نصبت نفسها بيت مال للمسلمين، ولا يتورع البعض من المشرفين عليها عن الاستيلاء على ما يحصلون عليه من تمويلات من الناس والحكومات ودسه في جيوبهم”.

وواصلت “للأسف غابت الأمانة والشفافية عن الكثير من الجمعيات التي ترفع شعارات براقة لحث الناس على فعل الخير، لكنها في الوقت نفسه تسرق التبرعات وتحتال على المتبرعين”.

وأكدت العيادي على ضرورة قطع الطريق على مثل هذا النوع من الجمعيات التي يديرها المتحيلون وعديمو الضمير، عن طـريق التبـرع المبـاشر للفقـراء ودون واسطة.

وكرّست الإعلامية العراقية أسماء عبيد جهدها لمساعدة الفقراء والمحتاجين العراقيين وحاولت أن تكون سندا وعضدا لهم في غياب الدعم الحكومي، وبإمكانياتها البسيطة والمحدودة ساعدت الكثيرين بشكل شخصي، ثم سعت إلى الانخراط ضمن فريق متطوعي المركز الوطني للتنمية والإبداع، وفريق متطوعي اتحاد الإذاعيين والتلفزيونيين بالعراق، من أجل جمع أكبر قدر من التبرعات للمعوزين واللاجئين.

وقالت عبيد لـ“العرب” “لا أستطيع أن أؤيّد أو أنفي ضلوع بعض الجمعيات المحلية أو الدولية في تمويل العناصر الإرهابية، فأنا مثلكم سمعت بمثل هذه الاتهامات التي إن لم يتم إثباتها قطعيا بالأدلة فستبقى مجرد شكوك، ولا يمكن القياس عليها وتعميمها على جميع الجمعيات، التي يوجد من بين أعضائها الكثير من النزهاء والشرفاء وأيديهم كلها خير وبركة، وفي قلوبهم رحمة كبيرة، وتحدوهم رغبة حقيقية في مساعدة المحتاجين ومؤازرتهم”.

وأضافت “لا أملك جوابا قطعيا حول الجهات التي تذهب إليها أموال الجمعيات أو المنظمات الإنسانية، فلست سلطة رقابية عليها، ولكن بصفتي متطوعة منذ عام 2013 ورئيسة فريق تطوعي، علمت بوجود بعض الأشخاص ممن استغلوا جزءا من التبرعات التي بلغتهم لأغراض ومنافع شخصية، فرفضت مثل هذا الفعل المشين وأدنته بشدة في مناسبات عديدة”.

وأوضحت “بالنسبة لي ولفريقي نحن مستقلون تماما ولا نتبع أي جهة سياسية أو شخصية معينة، وهدفنا الوحيد تقديم المساعدة لأبناء شعبنا من الفقراء والنازحين قدر المستطاع، حتى أننا نشارك أيضا بالتبرعات ولا نستقبلها فقط من الناس، وأصحاب البر والإحسان يثقون فينا ومتأكدون من أن تبرعاتهم ستصل إلى مستحقيها فعلا”.

وتعتقد عبيد أن ضعف ميزانيات بعض الجمعيات يعود بالأساس إلى انخفاض نسبة التبرعات في السنتين الأخيرتين، لأن الناس عدلوا عن تقديم الإعانات، خاصة في ظل رواج أخبار حول تمويل منظامات معروفة على نطاق دولي للإرهاب، ما أفقد الكثيرين الثقة في من يجمعون التبرعات.

التوجس من الجمعيات

يبدو أن اختيار الجمعية المناسبة للتبرع بالأموال قد أصبح فعلا أمراً محيرا وصعبا مع وجود الملايين من المنظمات الخيرية في العالم، وخاصة بسبب ارتفاع الأصوات المشككة في نزاهة العديد من الجمعيات، وأيضا لعدم تحقق الأهداف الإنسانية المرجوة والملموسة من التبرعات.

وينبه خبراء التبرعات الخيرية إلى نقاط أساسية عند اختيار الجمعية أو المنظمة لتقديم المساعدات، من بين هذه النقاط مستوى نفقاتها الإدارية وعدد العاملين فيها، حتى لا ينتهي الأمر بالتبرعات إلى جيوب الموظفين.

الشريف محمد المفتي الحسني: استغلت بعض الجمعيات الحوافز المادية التي تحصل عليها لتنخرط في سياسات بعيدة عن الأهداف الإنسانية

ويؤكد الخبراء على ضرورة التأكد من أهداف واستراتيجيات وإنجازات تلك المنظمات الخيرية، ويمكن الاستعانة بالإنترنت للاطلاع على قاعدة بيانات الجمعيات وآراء المتبرعين.

وقال صلاح الدين رجب -الناشط التونسي في المجتمع المدني- إن “العديد من الجمعيات الخيرية قد واجهت موجة من الانتقادات بعد الأخبار التي راجت حول سلك البعض منها طرقا ملتوية لا تصب في مصلحة العمل الخيري -الذي لا يقدر بثمن- بل تساهم في تمويل الإرهابيين”.

وأضاف رجب في تصريحات لـ“العرب” “هذه الاتهامات قد أضرت مباشرة بالعمل الإنساني الذي تقوم به عدة جمعيات نزيهة وفوق الشبهات، وجعلت المتبرعين يتوجسون ويخشون أن تذهب مساعداتهم إلى أيادي الإرهابيين عوض أن تدخل الفرح إلى قلوب المحتاجين وتنشر ثقافة التكافل والتعاون في المجتمعات”.

وواصل “من المفروض أن تمنح الزكاة الواجبة على كل مسلم للجمعيات، لتقـوم بتوزيعها على الفقراء، لكن للأسف هنا يجب أن نشيـر بكـلّ صـراحة إلـى أن الثقـة أصبحـت منعـدمة وحلت محلها المحاباة، وأعتقد أن هـذا يمكـن أن نسميـه شـركا بالله، لأن الغـاية من التبرع أصبحت إرضاء أطراف معينة وليس كسب مرضاة الله سبحانه وتعالى”.

وعبر رجب عن أسفه قائلا “الأنانية أصبحت مرضا متغلغلا في المجتمعات، ولا يفكّر الكثيرون إلاّ في أنفسهم، ويعتقدون أنّ مساعدة الفقراء من مشمولات الحكومات، في حين أنّه يمكن للقدر الضيئل من المساعدات الذي يساهم به الناس أن يغير مجرى حياة عدد كبير من المعوزين”.

لكن الأمل ما زال معلقا على أصحاب القلوب الرحيمة، ويمكن لتبرعاتهم أن تعود عليهم بمنافع أكثر من الشعور بالطمأنينة، فبحسب قول الباحث سونجا ليبوميرسكي الحاصل على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا الذي أكد في تصريحات سابقة أن “كل فعل يترك أثرا وراءه، وبقدر أعمالك التي تدخل السعادة إلى نفوس الآخرين ومع كل عمل لطيف وإيجابي تقوم به ستشعر بالتحسن والارتياح”.