أيها الفرح كم أفتقدك كعربية..

كم أفتقدك!

كمذنب صغير بريء أعترف بأنني من محبي بعض مباريات كرة القدم منذ صغري

غادة السمان

مر أسبوعان على المباراة الأخيرة في (المونديال) لبطولة العالم في كأس كرة القدم، وما زال الفرنسيون ثملين بالنصر، والاحتفالات مستمرة والتلفزيون الفرنسي يعيد عرض المباراة الأخيرة وسواها من تلك التي انتصر فيها الفريق الفرنسي ضد بلدان العالم. والابتسامات تغطي الوجوه والاحتفالات ليلة المباراة الأخيرة الحاسمة بين فرنسا وكرواتيا مستمرة، وكان لا مفر لي ليلتها كجارة لـ«برج إيفل» من مشاهدة عشرة آلاف شخص يتسع (شان دو مارس) لهم، أي في الساحة الشاسعة في كنف «برج إيفل» والشاشة العملاقة التي زرعتها بلدية باريس ليشاهد الناس المباراة الأخيرة للبطولة إلى جانب شاشات كثيرة أخرى في باريس وفي غير باريس من المدن الفرنسية.

حسنا، أعترف بحبي!

كمذنب صغير بريء أعترف بأنني من محبي بعض مباريات كرة القدم منذ صغري، وكنت في الثالثة عشرة من عمري حين رافقت أبي إلى مباراة بين فريق الجامعة السورية (جامعة دمشق اليوم) وفريق آخر محلي، وكان أبي مضطرا لحضور المباراة بصفته رئيسا للجامعة، ورافقته وفوجئت بحماستي لفريق الجامعة، وضحك زملاء أبي الأساتذة الدكاترة وهم يرون بنتا لم تبلغ سن المراهقة تقفز وتصرخ بحماسة كلما نجح فريق الجامعة في تسديد هدف في مرمى الفريق (العدو)، وتحمسوا معي.
وفي «شان دو مارس» قرب بيتي، سمعت عشرة آلاف حنجرة تصرخ فرحا، وما أجمل صرخات الفرح..!

إنها الحرب العالمية ولكن..

«مونديال» كرة القدم هو الحرب العالمية العصرية، والقنبلة النووية هي الكرة.. ها هي الدول تتحارب في رقعة من الأرض محدودة المساحة هي الملعب، والمتحاربون بعدد محدود، وبدلا من قصف المدن يتم قصف المرمى بقنبلة ليست نووية، بل هي كرة القدم.. اللاعب الذي يسقط متوجعا على أرض الملعب لصدمة عدوانية من الفريق الآخر لن يموت كما في الحرب، بل ينهض أو يستبدل به لاعب آخر.. الأحقاد القومية تتخذ المجرى الصحي الحضاري دونما إطلاق رصاصة، بل ضربة كرة موفقة.. وأعترف أنه يدهشني بعض اللاعبين الذين يتلقون الكرة برؤوسهم ويعيدون تسديدها دون أن يغمى عليهم!

الروح الرياضية والقتل!

أسفت في لبنان لأن شابا قتل الآخر (وطعنه بالسكين) إكراما لخلاف على نتيجة إحدى المباريات، ولن أذكر الأسماء التي تناولتها الصحف مع الجريمة المروعة لأسرة القتيل، ولكن من يحترم حق الآخر في الاختلاف.. وعلى الأقل بحق الإعجاب بفريق كرة القدم دون الآخر! 
حين انتصرت فرنسا، لم يقتل أحد جاره لأنه مناصر لكرواتيا ولا قبلها في المباريات كلها التي خاضتها فرنسا للوصول إلى بطولة العالم.
القتل علامة تخلف لا دلالة على حب فرق رياضية، ويستحق لبنان الخروج من مرحلة القتل، وهو الوطن العربي الحضاري في كثير من الحقول.. أما في فرنسا فشاهدت مئات آلاف الناس يقفزون عن الأرصفة فرحا بالانتصار في بطولة العالم لكرة القدم، هو أيضا انتصار حربي وسياسي، ولكن القتل ليس من أدواته، بل السلوك الحضاري مجسدا في الحَكَم الرياضي الذي انضم إليه حليف جديد هو العلم، أي «تقنية الفيديو»، التي ظهرت للمرة الأولى على شاشة عصرية تدون الحقيقة من الزوايا كلها، تتعدى الزاوية البشرية لنظر الحكم وكل ما هو بشري قابل للخطأ..

الرئيس ماكرون والبروتوكول

قفزة رئيس جمهورية فرنسا حين انتصر فريق بلده ما تزال تلفزيونات فرنسا تعرضها، فرئيس جمهورية فرنسا شاب دون الأربعين من العمر وكانت فرحته بانتصار فريقه تستعصي على «البروتوكول»، كما عناقه الحار لجميع أفراد الفريق الفرنسي، ومدربهم ديريه دوشان.
ما لفتني حقا كعربية هو فرحة الفرنسيين الثملة بذلك النصر الكروي وهو ما لم يحظ به حتى نابليون حين احتل دولا وخلف كثيرا من القتلى بانتصاراته.
وإذا كانت الكاميرات مصوبة على سعادة رئيس الجمهورية بالنصر فإننا شاهدنا سعادة أفراد الشعب الفرنسي في شوارع المدن الفرنسية كلها، وتحديدا الشانزليزيه/باريس، التي يدعوها الفرنسيون بأجمل جادة في العالم، ناهيك عن فرحة المشجعين الذين رحلوا بالآلاف إلى موسكو لتأييد الفريق الفرنسي.

أيها الفرح، كم أفتقدك كعربية!

على شاشات التلفزيون أرى وجوها سعيدة وأجسادا تقفز عن الأرض فرحا بالانتصار في المونديال في كل بلدة أو قرية فرنسية. وحتى بعد انقضاء ما يقارب الأسبوعين على النصر ما زالت فرنسا تحتفل والكل يصرخ: أنا فخور بأنني فرنسي..
إنه الفرح والروح القومية المنتعشة والاقتصاد الذي بدأ بالانتعاش لارتفاع الروح المعنوية لدى الفرنسيين، كما حدث عام 1998م، حين فازت فرنسا أيضا ببطولة العالم في كرة القدم وكان النجم (زيزو) أي زين الدين زيدان.

الذهاب لندوة أدبية أم لمباراة البطولة العالمية؟

أعتقد أنه من الخطأ برمجة لقاء أدبي في الموعد ذاته لمباراة «المونديال»، فالقلب البشري يتسع لحبين: الثقافة وكرة القدم. ولكن من المؤسف أننا كعرب خرجنا منهزمين منذ بدايات المونديال، وانهزمنا أيضا سياسيا وقوميا في مواجهة إسرائيل وسواها من تحديات حياتنا اليومية!
أجد عقد المونديال الآتي في قطر بعد أربعة أعوام أمرا إيجابيا جدا لنا كعرب، وأتمنى أن يشارك فيه العرب كلهم وفي نيتهم النصر، فلدينا الطاقات الشابة إلى جانب جوع حقيقي للفرح. 
كعرب، اشتقنا إلى لحظة فرح وتضامن في وجه التحدي الإسرائيلي المتوحش والتآكل العربي في حروب محلية تفرح بها إسرائيل، أرجوكم دعونا نفرح ولو بانتصار كروي.
ولدينا أربعة أعوام للاستعداد له، فهل نفعل؟
أيها الفـــرح، أرجــــوك اقـــرع باب قـلــبي، فأنا أفتقدك كالكثيرين!