رؤية السينما..

أفريقيا تتطهر من جرائم الغرب بالسينما

فاروق عبدالخالق يطرح كتابا جديدا عن الهجرة الرق بأفلام غرب أفريقيا

سعد القرش

منذ زمن، أيام خلوّ البال ومجانية الأحلام، وضعت تصورا لكتاب عن مفهوم العنصرية وجذور الإبادة في السينما الأميركية، وكالعادة لم ألزم به نفسي. كنت مهموما بقدرة العقل الأداتي على تشييء الإنسان، ولو كان أخاه فهو شيء، أداة، سلعة أو وسيلة إلى سلعة، ويسهل التخلص منه بعقل بارد. أثناء التخطيط رأيت تجسيدا لذلك في ثلاثية "الأب الروحي". وشغلتني قضية الاستعلاء والعقل النيتشوي/ الدارويني، في ضوء أفلام منها "صمت الحملان" و"أساطير الخريف"، وكلاهما من بطولة أنطوني هوبكنز.

أغرتني الفكرة، وأنا أرى عربا ومسلمين مهزومين نفسيا، لا يرون في تاريخنا إلا نسخا داعشية، ناسين أن المسلمين لم يورطوا العالم في الحرب العظمى (1914ـ1918)، الحرب الأوروبية التي استهدفت اقتسام بلادنا، وأزهقت أرواح نحو تسعة ملايين، ومعهم 28 مليونا بين مصاب وأسير ومفقود. ولم يخرج منا مهووس عنصري اسمه أدولف هتلر أدخل العالم في حرب حصدت أكثر من 62 مليونا. وتخلو سجلاتنا من جريمة استعراضية مثل القصف النووي لهيروشيما ونجازاكي، أو قصف الطيران البريطاني-الأميركي لمدينة درسدن والحرب تكاد تكتب نهاية النازية. وليس في هذا السجل جريمة ضد الإنسانية كالتي نفذها الفرنسيون بحق جزائريين تظاهروا سلميا، لتذكير المستعمر بوعده لهم بالاستقلال، بعد نهاية حرب أسهموا فيها بالرجال والأرواح، فلم يتردد جيش الاستعمار في ارتكاب مذابح بلغ ضحاياها 45 ألف شهيد، في مدن قسنطينة وقالمة وسطيف.

ولكن الإغراء الأخير بشروعي في إنجاز الكتاب أنهاه الأستاذ فاروق عبدالخالق، فأراحني مؤقتا بكتابه "الهجرة.. الرق.. الحرية والبحث عن الهوية في أفلام دول غرب أفريقيا"، وهو أحدث إصدارات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية (2018). ويقدم بانوراما للسينما الأفريقية، بعيون محلية واعية وواثقة وحانية، ولا تستهدف إبهار المشاهد الغربي، وتنجو من غواية الاستشراق.

الكتاب فرصة تأخرت كثيرا، لتقديم التحية إلى مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية منذ انطلاقه عام 2012، وللمرة الثانية أقول إنه الثمرة الوحيدة الباقية من طيف 25 يناير 2011، الثورة الشعبية التي ذكرت مصر بأفريقيا، وأعادت الأفارقة إلى مصر. وجسر العودة مهرجان أهلي دلالته أعمق من مجرد عروض للأفلام، فهو ينشط طوال العام ببرامج تشمل أسابيع للأفلام، وطموح الإنتاج المشترك، والتدريب على فنون السينما لشبان أفارقة، وقد أصدر في دوراته السبع كتبا تلقي أضواء على سينما كنا نجهلها، ومنها "سينما التحريك في أفريقيا" (2013) لمحمد غزالة، و"السينما الأفريقية في الألفية الثالثة" (2013) للفرنسي أوليفيه بارليه، وترجمة فرح سوميس وحورية بويحيى.

وفي عام 2014 صدر كتاب ثان لأوليفيه بارليه وترجمته عبلة عبدالحفيظ سالم، وفيه يقول بارليه إن "أفريقيا قادرة على تعليمنا الكثير من الأشياء إذا أردنا الإنصات إليها دون الرغبة في إرشادها بهدف إنقاذها". أما الكتاب الأهم فعنوانه "الفيسباكو حالة أفريقية.. المهرجان البانافريقي للسينما والتلفزيون.. واغادوغو 1969ـ2009" للفرنسي كولان دوبري وترجمته عبلة سالم.

 ويثبت الكتاب كم غابت مصر عن أفريقيا، جهلا أو استعلاء، وربما اكتفاء باحتذاء خطى المستعمر على الشاطئ الآخر للبحر المتوسط، في حين كانت أفريقيا تبدع فنونها، ويؤسس فنانوها في فبراير 1969 أول مهرجان للسينما الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى، في واغادوغو عاصمة فولتا العليا "بوركينا فاسو، وتعني أرض الأطهار".

عرض مهرجان الأقصر أفلاما من كلاسيكيات السينما الأفريقية، مثل "فتاة سوداء" (1966) للرائد السنغالي عثمان سمبين، والفيلم وجه عصري لتراث استعباد عمره عدة قرون، وكان من ضحاياه ملايين لا يعرف لهم حصر دقيق، تم قنصهم وقيدوا في السلاسل، وبيعوا في أسواق أوروبا وأميركا، ومن حاول التمرد ألقي طعاما لأسماك المحيط.

يتتبع فاروق عبدالخالق منحى رؤية السينما للأفارقة، من عنصرية غربية كرست الصورة الذهنية الاستشراقية، واعتبرتهم متوحشين وهمجا بدائيين ومحتالين، إلى رؤى وطنية لمخرجي أفريقيا بعد الاستقلال في ستينات القرن الماضي، وتحفل أعمالهم بثراء حضاري وفني وثقافي أفريقي، وتذكّر بجرائم "الأوروبي المتحضر". وكان في انتظار الجيل الجديد من سينمائيي أفريقيا قضايا لا تقل تعقيدا، وأبرزها الهجرة السرية، جرح جديد ينزف، والاستعمار القديم، ناهب الثروات والأرواح، يدير ظهره، ولا يريد أن يتحمل نصيبا من المسؤولية الأخلاقية عنه.