لا إمساك عن الموسيقى..

الطرب لا يُخيف والموسيقى توقظ الحميم في دواخلنا

الموسيقى فكر الليل أو ليل الفكر

د. علي عرجاش

يختلط الألم مع الضجر وترهقنا الأنباء، فيصبح الوقت محشوّا بالصمت. يلوذ أحدنا إلى الموسيقى التي يصاحبها الشعر، لأن الأولى – مثلما قال هيغل قديما – لا تعبّر عن دواخل النفس وحسب، بل تخاطبها أيضا، بصرف النظر عما يقوله الشعر، والنفس بدورها تتوسّلها لكي تؤثر فيها.

في عجالة، ينتقي أحدنا، في سكون الليل، الموسيقى التي تلائم قلبه وطبيعة ضجره وجيله وذاكرته؟ فالموسيقى فكر الليل أو ليل الفكر، والفن قرين الحياة، يتأثر بها وتتأثر به.

وأذكر أنني كتبت عن فنانة كاريكاتير فلسطينية مُجيدة، كان رسمها يحاذي مقالتي في الصفحة الأخيرة من جريدة فلسطينية. كانت ترسم أصداء الحدث اليومي العنفي، لكن ريشتها الرشيقة عندما تنفتح على آفاق أخرى اجتماعية تتبدّى مرنة وذكية، لكنها محرومة من الخروج عن دائرة الحدث، إلى حيث يتاح لها أن تتألق.

يخترقنا الصوت المشحون بالصمت في نظّم إيقاع زمننا، ويضبط وجهتنا. فلا شيء قادرا على أن يخنق الذكرى ويمحو الهوية الخاصة.

 وفي العموم إن الطرب لا يُخيف، والموسيقى على اختلافها توقظ الحميم في دواخلنا، لا سيما عند سماعها في ليلٍ داجٍ، تمد فيه أحدنا ببهجة مضادة للإحباط، مع فيض من الإحساس الخاص بجماليات خاصة، فيخف ثقل التأسي.

ولأن كل امرئ أسير ذاكرته، فإن موسيقانا المفضلة هي التي صاحبت أصوات أم كلثوم في الربع الأخير من تجربتها، وفيروز وعبدالحليم وغيرهما، بالنسبة للعزوفين عن الطرب الثقيل، الذي لم تنجذب إليه ذائقة جيلنا. وربما تكون أشرطة الفيديو المسجلة في الستينات، عاملا مساعدا على رفع درجة الاستمتاع، فيتأمل أحدنا فرقة العازفين، وسمة العمل الجماعي الذي يؤديه عازفون بارعون مجهولون ويُنتج اللحن!

في ليلة من التأسي والضجر ذهبت إلى أغنية لعبدالحليم من كلمات الشاعر والصحافي محمد حمزة، الذي راق لي شعره الغنائي منذ أن كتب لعبدالحليم نفسه في العام 1968 سطورا عن “الفدائي”.

وبدا لافتا بعدئذ، مع تداعي الأحوال ومتابعتي لما يغني عبدالحليم من كلماته، أن الشاعر كان ينزاح شيئا فشيئا إلى الحزن والشجن، فلا يناسبه سوى لحن بليغ حمدي الذي اتسمت ألحانه غالبا، بالميل إلى المقام الشرقي المسمّى “البياتي” الذي يمزج الحزن بالفرح وهو ذو أصول كردية شجيّة!

ليس بالضرورة أن يكون كلام الأغنية مهمّا أو عميقا، فالموسيقى تمضي مستقلة عن كل مضمون، وتوقظ في النفس إحساسا بمثالية السمو، وتفتح للمستمع مسارب للذكرى. لذا لا إمساك عن الموسيقى!