تحت غطاء عاطفي..

علاقات مدمِّرة

العلاقة التي تربطنا ضرورية ويجب علينا أن نتقبلها كما هي

بروين حبيب

تبدأ هذه العلاقات تحت غطاء عاطفي يوهمنا دوما بأن العلاقة التي تربطنا ضرورية ويجب علينا أن نتقبلها كما هي، قد يكون الطرف الآخر في العلاقة والدك أو أمك أو أخاك أو صديقك أو زبونا أو طبيبا أو معلما… أو حبيبا. 
الاحتمالات مفتوحة أمام هذه العلاقة التي قد تنجح وقد لن تنجح أبدا مهما حاولنا إصلاحها وتصحيحها. الأسهل من بين تلك العلاقات، تلك التي بمقدورنا أن ننهيها، لنتخلّص من تأثيراتها المدمرة لنا، كقطع العلاقة بصديق يتفنن دوما في جعلنا نحزن وننهار ونتوتر ونفقد أعصابنا بوجوده، أمّا الأصعب فحين تكون العلاقة مبنية على رابط عائلي قريب، مثل الأم التي تقلب حياتك نكدا بملاحظاتها، والتي لا تعجبها تصرفاتك حتى وأنت في الثلاثين من عمرك، أو في الأربعين، أو حتى وأنت قد تجاوزت الخمسين، فتتلف أعصابك وهي تنتقدك أمام عائلتك بـ»يا ولد»، أو تندب حظها لأنها فقدتك إلى الأبد منذ تزوجت وأصبحت زوجتك ملاصقة لك في كل كبيرة وصغيرة، ومثلها مثل الأب الذي يجعلك تشعر دوما بأنك طفل فاشل، وأنك ضائع بدونه، وأن أي كلمة تتفوه بها تصبح غلطة تُحسب عليك، حتى تتمنى لو أنّك ولدت أخرسَ، كل سلوك أو تصرف منك هو خاطئ سلفا، كل مبادرة منك لبناء العلاقة من جديد هي محاولة فاشلة تزيد من إذلالك وإفشالك.
على هذا النّسق تكون العلاقات المُدمِّرة، التي تمصُّ طاقتك شيئا فشيئا، حتى تتحوّل إلى كائن مفرغ من الحياة، جثة متوترة تتحرّك، تأكل وتشرب وترى الكوابيس حين تنام. ثمّة علاج حقيقي لكل هذه المتاهة المُروِّعة، لكننا نخافه، يسمّى علاج البتر، بقطع تلك العلاقات نهائيا، أو خلق جدران تفصلنا عن أصحابها، أو على الأقل مسافات تمنحنا فرصة لنتنفّس هواء نقيا.
الأزواج الفاشلون في إنشاء علاقات هادئة، وأسر طبيعية، هم أكثر عرضة لأمراض العلاقات المدمرة، وهم في الحقيقة يبدأون بتدمير بعضهم بعضا في تلك المؤسسة التي تبدأ من أجل إنشاء أسرة وتنتهي لأنها كان يجب أن تُبنَى على المحبة والاحترام، أو ما نعرفه من مرجعيتنا القرآنية على «المودّة والرّحمة». ثمة علاج آخر لفهم تلك العلاقات والتخفيف من حِدّة تأثيرها عليك، وهو متوفر في «أكزخانة الكتب» كما كان يقول لي صديق مصري قديم، دواء لا نجده سوى في الروايات العظيمة والنصوص الشعرية التي أقامت إلى الأبد في قلوبنا، وسكنت أرواحنا بكل أحلامها الغضة. هناك نرى حقيقة العلاقات الإنسانية كاملة، نرى المدمِّر منها والبنّاء. المحفِّز، والدّاعم، والمُفَجِّر لطاقاتنا، والمنكِّس لها، وقد يفهم قارئ الأدب الجيد بشكل عفوي أن «دراكولا» ليس أكثر الشخصيات شرا في المخيلة الأدبية، ولا حتى «هانيبال ليكتر» الذي أكل قاتلي أخته بالطريقة نفسها التي أكلوها فيها، ولكنه نوع آخر، يتسلل إلى ذاتك مثل فأر صغير، يقضم داخلك كل ليلة بطقطقة القوارض المزعج، يأكلك شيئا فشيئا حتى تصاب برهاب القوارض والأصوات المتكررة التي تمنعك من النوم والشعور بالسكينة، هذا النوع وجدناه عند شكسبير في «هاملت»، حين وضع مرايا تعكس واقع الإنسانية جمعاء في مسرحيته الخالدة، فرأينا أنفسنا في «هاملت» بأوجهه المتعددة، المظلوم والظالم، الشرير والطيب، المخدوع والخادع.
كثيرا ما رأينا أنفسنا فيه، قبل أن نخسر طيبتنا ونتحوّل إلى أشرار مع مبررات كافية لإطلاق شرورنا على الآخر. كما رأى البعض نفسه في «غرترود» والدته، بدون الحاجة للاعتراف بذلك، ورأى البعض الآخر نفسه في « كلوديس» ماقِتا نفسه من شدة خسته وإجرامه، وحتى «أوفيليا» هناك من يرى نفسه فيها، بل إنّ «أوفيليا» بالذات عندنا منها الكثير، في ما أعتقد أن مجتمعنا العربي يرى نفسه أكثر في «فولتموند، وكورنيليوس» لو أنّه قرأ المسرحية أو على الأقل تابعها على شكل فيلم ولماذا يقرأ؟ إنه يؤدي الأدوار بشكل جيد على مسرح الحياة الواقعي.
ولأنّ «هاملت» مسرحية معقدة وصعبة، وحتى الطبعات المختصرة لها لا تقل صعوبة عن النص الأصلي، فإن الأقرب لنا ولثقافتنا البسيطة شكسبير العرب ـ بعد إذنكم – نجيب محفوظ الذي ترك لنا ما يكفي لنفهم علاقاتنا، في نماذج كثيرة من أدبه، خاصة توصيفه الدقيق لشخصيات «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» وبراعة تشريحه لمكنونات مجتمعنا الذي يعيش طيلة الوقت بالأقنعة، ولكنّه خلف تلك الأقنعة هو «سي السيد» و«أمينة» و«زنوبة» وهذا يفسد حياة ذاك، والحياة تستمر غير آبهة بمن يحترم من؟ ومن يخاف مِمّن؟ ومن يحب بصدق، ومن يحب بخبث؟ ومن يحلم بالثورة فيمارسها في الشارع لأنها هناك أسهل من أن يطبقها في بيته.
إن لم نقرأ الأدب ونحن خلال فعل القراءة بدون تلصص على ما تخفيه الأقنعة فإن قراءتنا ناقصة، لهذا نحن أكثر المجتمعات حاجة للأدب، كون الحقيقة مغطاة في كل مكان أمام أعيننا، في بيوتنا المسيجة، في مؤسساتنا الغامضة، في شوارعنا الباهتة، وحتى في الإنسان نفسه، هو المصقول حسب قوالب معينة. أليست كل هذه المعطيات كافية لتحريضنا على الهروب أحيانا إلى حيث تكتمل الرؤية لنرى الأشياء واضحة؟
خوسيه ساراماغو نموذجا، في روايته «العمى» وهو يكشف لنا الهلع من الآخر حين تنعدم رؤيته، ألم يُبسِّط معضلتنا وما نعانيه في مجتمع يتقن التخفي والإخفاء وتغطية الحقائق؟
لعلّها قراءتي الخاصة لرائعته، ولغيري قراءة مغايرة، لكن ما أريد أن أخلُص إليه هو أن ما نسميه مجاملة أحيانا، واحتراما للآخر، ومراعاة لمشاعره، وتفادي كسر خاطره، هو في الغالب نوع من الهدم والرّدم الذاتي لدواخلنا، فالاحترام حين يزيد عن حدّه يصبح إلغاء للذات، ومراعاة مشاعر الغير على حساب مشاعرنا نوع من جلد الذات، وتفضيل كسر خواطرنا وإبقائها سليمة عند الغير مازوشية مبالغ فيها تجاه أنفسنا، وأعتقد أن احترام الذات يبدأ من إدراك هذه الأشياء، وما إن نحترم ذواتنا حتى يقابلنا الآخر بالاحترام. هذا في العلاقات المفروضة علينا فرضا، أمّا علاقاتنا الاختيارية فلنا متسع لتنقيحها، أما جراحنا التي لا تبرأ جرّاء نهاية مأساوية لعلاقة ما فلا أدري إن كان الحل متوفرا في «زغرب»… في كرواتيا يوجد متحف خاص وفريد من نوعه للعلاقات المنكسرة، يدخله مكسور القلب ويكتب اسم محبوبه الذي طعنه، تاركا أثرا من آثاره، ويخرج. أما فكرة المتحف فقد بدأت معرضا متنقلا، ابتكره أحدهم ثم استقر عام 2011 في متحف، ليعطي صبغة معينة للمكان، نال إثرها جائزة «كينيث هيدسون» لأكثر المتاحف الأوروبية ابتكارا…هل هذا ما يلزمنا للتخلُّص من أعباء علاقاتنا المسمِّمَة لحياتنا؟