يخبئ تحت قبعته حمامة مذبوحة..

رسام حائر بين ملائكته وشياطين الحرب

ساحر الحكاية الناقصة

فاروق يوسف

ساخر وماكر وساحر هذا الرسام في كل الأوقات. ساخر لأنه يفكك العالم ويعيد تركيبه بطريقة توحي بقدر من العبثية. ماكر لأنه يبيت أمرا ليس في الحسبان ولا يملك البصر حلولا متوقعة له. هناك دائما علاقات غير متوقعة بين مفردات لوحته. ساحر لأنه يصنع مصائر للكائنات والأشياء التي يلمسها تنجو بها من الواقع الذي لا يحفل به كثيرا.

يحارب بشظايا وطن

ياسر صافي لاعب حزين يخبئ تحت قبعته حمامة مذبوحة. مسرته الوحيدة تقع في ما تتركه مفاجآته من هلع في عيون المشاهدين.

يرسم كالأطفال المسكونين بروح محارب صغير غادر صفحة الحكاية. ولأن الكبار يحبون الثرثرة فقد آثر الاختزال والاقتضاب.

بدلا من الإضافة التي يسعى الرسامون إلى الاحتفاء بها صار يحذف. بدلا من السعي إلى الكمال بحث عما يمكن أن يجعل مشاهده ناقصة.

عام 2011 غادرنا بيت الفنان نذير نبعة ضاحكين. المعلم العظيم صار بالنسبة لصافي جزءا من الماضي المترف. “لقد حارب قبل أن نتشظى” قال لي. “كانت حروبه ناعمة” أضاف.

هناك فكاهة سوداء تحيط به من كل جانب. لا يرغب في أن يكون رسام المأساة السورية. “ليست صفة حسنة” يقول وهو يضحك.

كان يتمنى ألا يقلد الواقع رسومه. غير أن الواقع سبقه إلى التفكيك. مدهشة فكرته عن السريالية المهذبة التي تبقي الكوابيس في مكانها.

صافي رسام وقائع لا تصلح للوصف، لذلك فإنه يدثرها بقدر من النظر العابث، كأن يغمض عينيه عن أجزاء منها ليراها ناقصة.

لا يمكنه أن يكون تعبيريا حديثا ما لم يتوصل إلى نوع من الهذيان، يكون في الوقت نفسه الداء والدواء.

يحارب هذا الرسام بالشظايا. هناك ضجر كثير يتخلل رغبته في اللعب باعتباره طفلا صار عليه في كل مرة يرغب فيها في اللعب أن يرمم دميته من جديد. الفعل الذي لا يتسنى له أن يكتمل في لوحة واحدة. كلما رسم يشعر أنه يكمل لوحة غادرته من غير أن تكتمل.

ولد صافي في القامشلي شمال سوريا عام 1976. درس الحفر الطباعي في كلية الفنون الجميلة بدمشق وتخرج منها عام 1997. بين عامي 1999 و2005 درس فن الحفر الطباعي في مركز أدهم إسماعيل بدمشق. بعدها انتقل إلى الشارقة ليشرف على قسم الحفر في معهد الشارقة للفنون حتى عام 2009. عام 2010 أقام ورشة فنية في جامعة لايبزغ الألمانية.

المشاغب في منجم الحفر

أقام أول معرض شخصي في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق عام 1999. وأقام معارض شخصية في تونس وعمان والشارقة ودبي والقاهرة وبيروت التي أقام فيها معرضه عام 2015 وهو العام الذي غادر فيه إلى برلين ليعمل ويعيش هناك.

في وقت مبكر من حياته اهتدى صافي إلى طريقة في اللعب تميزه عن سواه. لا أقول “أسلوبه” لأنه شخصيا لا يحب أن يكون له أسلوب. فهو يرعى قرينه الذي يرسم بشيء من الشغب الذي يتطلب الكثير من الخيال. ذلك طفل لا يريد أن يكبر لئلا يتعرف على مقاس قدمه. فهو لا يطأ الأرض إلا بخفة كائن محلق. وهو السر الذي جعل صافي عصيا على الانتماء إلى المحترف السوري. ليس له أب في ذلك المحترف ولا يعنيه أن تعينه طريقته في الرسم على الحصول على هوية محلية. 

لا يليق بشاب مثله أن يكون محليا. لم تنطل الكذبة على عدد من أبناء جيله غير أنه ذهب بعصيانه بعيدا. من أين تنبعث تلك القوة؟ ربما من منجم الحفر. فالحفار غير الرسام. إنه يتعرف على أسرار مهن كثيرة لا يقوى الرسم على احتوائها.

صافي هو ابن الحرفة أولا. تعلمها وصار يدرسها بإتقان. غير أن خياله المفتوح على المفاجآت أعانه على أن يضفي الكثير من المرح على تلك المهارة. إنه سيدها ولن تتمكن منه. غير أنه تعلم من الحفر الصبر. الصفة التي صارت تهبه قدرة استثنائية على العبور بين الألغام السورية. لقد رأيت رسومه عام 2010 قبل أن تندلع الاحتجاجات السلمية التي جرت إلى الحرب. كانت تلك الرسوم بمثابة نبوءة بما سيجري، ولكن الرسام لم يكن يومها يفكر في الحرب. كان ينصت إلى الأصوات التي تنبعث من منجم الحفر.

كان حفارا من طراز خاص.

لا يمكن القبض على صافي في حكاياته. تلك التي يمكن توقعها من غير أن يتمكن المرء من القبض على خيوطها. هناك إيحاء بأن ما يجري هو نوع من الحكاية. الأمر شبيه بعلاقة ما يُرى بالرسم. هناك إصرار على أن تُحرج العين بما تراه غير مكتمل. كما لو أن الرسام سيعود في أي لحظة ليكمل عمله.

 يتساءل المشاهد “ترى متى يقرر الرسام رفع يده عن اللوحة ويكف عن الرسم ليعلن انتهاء لوحته؟ قد لا يتمكن صافي من الإجابة على سؤال من ذلك النوع. ذلك لأنه هو الآخر لا يعرف متى يتوقف خياله عن اللعب في مناطق يسيطر عليها التوتر.

غالبا ما تظهر كائنات صافي في حالة انفصال، بعضها عن البعض الآخر غير أن المسافة التي تفصل بينها ليست فراغا يل هي منطقة يحتدم فيها صراع، تكشف عنه طبقات الأصباغ التي تُترك لعشوائية بناء لا يستقيم مع الرغبة الساذجة في رؤية سطح منسجم. يبدو ذلك السطح المتشنج مرآة لما فعلته الكائنات المنفصلة في وقت سابق يوم كانت في حالة اتصال وجودي. وهنا يكن واحد من أسرار الحكاية التي يشعر المشاهد بعجزه عن العثور على مفاتيحها. تلك المفاتيح تخص الصور المقطوعة وهي ذاتها أحجية الحكاية التي لا يكمل بعضها البعض الآخر.

يرسم ياسر صافي كائنات منفصلة توحي باتصالها في أوقات سابقة ويدثر سطح لوحته بنشيج جمال لا يزال يملك القدرة على الصراخ.

الرمزية التي يكرهها


لو تُرك الأمر له لاكتفى ياسر صافي بتلك المفردات التي يستعيرها من عالم الطفولة، الواقعي والحكائي على حد سواء. دمى وكرات ملونة وقطارات وحيوانات وجنود صغار. سيكون العالم جميلا وإن تخلله شيء من الاضطراب والتشويش. غير أن ما يجري من حوله يجبره على استعمال حواسه لغايات أخرى. وهي غايات يتطلب حضورها اللجوء إلى استعمال مفردات تقع خارج منطقة ومنطق الطفولة. يتصفح كتاب الحرب فلا يتسع قاموسه بل يضيق لأن الكآبة تطبق عليه.

بدلا من الملائكة تضحك على سطوح لوحاته، شيء منه سيظل ممسكا ببداهات الألماني الساخر جورج بازاليتس وهو يقتفي أثره في الجمع بين حياة، كادت أن تكون عادية وظلالها التي تنسج مكائدها من مادة وهمية. وإذا ما كان الرسام في مراحل سابقة قد قاوم الواقع عن طريق اللجوء إلى تأملات الطفولة الغامضة فإن الحرب التي ضربت بلاده جردته من تلك الموهبة ودفعته إلى أن يكشف عن عالمه مفككا في حالة عري كامل. لقد تحول البشر إلى أشلاء فيما اكتسبت الصور طابعا رمزيا.

مصير هو الأسوأ. شيء صادم بالنسبة له أن يُضفى على رسومه طابع رمزي. غير أن للحروب منطقها الذي لن يقوى الرسام على مقاومته. بعد الحرب اكتسبت رسوم ياسر صافي التي تغلب عليها الهشاشة طابعا نبوئيا، كما لو أنها كانت نبوءة الحرب التي ستقع بعد سنوات. ذلك حديث يمكن أن يكون مصدر إزعاج لياسر، كونه رساما جمع السخرية والمكر والسحر بين يديه وصار يصنع عجينة عالمه الخيالي بعيدا عن إملاءات العالم الخارجي