عشر سنوات من الغياب..

لا شيء يعجبني.. تأثيرها على نفوس الشباب

أعدي لي الأرض كي أستريح

حسين أبو السباع

"أن تكون خالداً، ذلك هو العذاب الحقيقي"، جملته التي طافت أرجاء الأرض، حين أصيب بأزمة قلبية.
ومرت الخميس اغسطس/ 9 آب الذكرى العاشرة على رحيل الحاضر الغائب "شاعر الأرض" محمود درويش (13 مارس/آذار 1941- 9 أغسطس/آب 2008)، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب في العصر الحديث، وإذ ارتبط اسمه بشعر الثورة والوطن، وفي ظل الأوضاع التي تشهدها الأرض المحتلة، كأن لسان حال درويش اليوم يقول مثل قصيدته الشهيرة لا شيء يعجبني.. لا الراديو.. ولا صحف الصباح.. ولا القلاع على التلال.. أريد أن أبكي".
ورغم ذلك، لم يصب يوماً بإحباط، أو يأس، ولا توجد كلمة واحدة في أعماله دالة على ذلك، إذ جعل من الحبيبة الأم، ومن الأم الأرض، فتماهت صور المحبة في مزيج شعري أخاذ دال على عمق مشروع شاعر، كان الأول في كل جوائز الشعر التي خاض مسابقاتها، ليؤكد أنه دوماً يحن إلى خبز أمه.
ليس غريباً أن تباع دواوينه حتى الآن، بسبب إيمانه العميق بقضية بلاده المشروعة في الحرية من الاحتلال، وإيمانه بتحقق الهوية العربية لكامل الأرض، وأن كلمة في شعره لها تأثير كبير في استنهاض همم الشباب وتنويرهم.
وعلى رغم أن شعراء العالم العربي يقيمون احتفالاً بمحمود درويش، ويقيمون ذكرى وفاته، ويقرأون شعره منذ غيابه بجسده؛ حباً فيه، وكثير من الفتيات أيضاً معجبات بكتابته حد العشق، إلا أن درويش نفسه ذهب أبعد من العاطفة كلها، حين اعترف بفشله في الحب، على رغم الكثير من نصوصه المملوءة بمشاعر الحب المتأججة، وقال "أحب أن أقع في الحب، السمكة علامة برجي لحوت، عواطفي متقلبة، حين ينتهي الحب أدرك أنه لم يكن حباً، الحب لابد أن يعاش، لا أن يُتذكر"، مؤكداً أنه أصرَّ على حبه الشعر أكثر من حبه أن يكون أباً، فلا شيء كان أهم عنده من الشعر، يرفض أي شيء يضر شعره أو يعرقله، كان يعيش في المنفى الذي وصفه بأنه ليس حالاً جغرافياً.

أحب أن أقع في الحب، السمكة علامة برجي الحوت، عواطفي متقلبة، حين ينتهي الحب أدرك أنه لم يكن حباً، الحب لابد أن يعاش، لا أن يُتذكر

ومن أهم ما ميَّز شعره استعماله الرمز في نصوصه، مثل قصيدته التي ترمز للسلام "يطير الحمام"، وفيها يقول: "يطير الحمام.. يطير الحمام.. أعدي لي الأرض كي أستريح.. فإني أحبك حتى التعب..."
وقد غنى أشعاره الكثير مثل مارسيل خليفة، أحمد قعبور، بشار زرقان، ماجدة الرومي، جورج قرمز، أصالة نصري. رافقته فرقة الثلاثي جبران في آخر عشر سنوات من حياته، وفي ذكرى وفاته الأولى، أقاموا له حفلة موسيقية ضخمة؛ جمعت بين قصائده المسجلة ورنة العود الجميل.
رغم أنه كتب بالعربية، يقرأ درويش الإنكليزية والفرنسية والعبرية، ومن بين الذين تأثر بهم رامبو وغتزبرغ.
وترجمت أعمال درويش إلى أكثر من عشرين لغة، وهو أفضل من تباع دواوينه من الشعراء في فرنسا حتى الآن، ورغم ذلك، فإن مختارات قليلة من دواوينه الشعرية العشرين مترجمة إلى الإنكليزية، أحدها الذي ترجمته زوجته الأولى، الكاتبة رنا قباني، وتراه الشاعرة الأميركية أدرين رتش شاعراً بقامة عالمية لمجازفاته الفنية. وقد أسهم في إطلاقه واكتشافه الشاعر والفيلسوف اللبناني روبير غانم، عندما بدأ هذا الأخير ينشر قصائد لـمحمود درويش على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الأنوار، التي كان يترأس تحريرها.
أصيب درويش بنوبة قلبية، وأجريت له عملية لإنقاذ حياته سنة 1984، وعملية جراحية قلبية أخرى سنة 1998، أثناء عمليته الجراحية الأولى يقول: "توقف قلبي لدقيقتين، أعطوني صدمة كهربائية، ولكنني قبل ذلك رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء، تذكرت طفولتي كلها، استسلمت للموت، وشعرت بالألم فقط عندما عدت إلى الحياة". ولكن في المرة الثانية، كان قتالاً، "رأيت نفسي في سجن، وكان الأطباء رجال شرطة يعذبونني، أنا لا أخشى الموت الآن، اكتشفت أمراً أصعب من الموت؛ فكرة الخلود، أن تكون خالداً هو العذاب الحقيقي، ليست لدي مطالب شخصية من الحياة؛ لأنني أعيش على زمان مستعار، ليست لدي أحلام كبيرة، إنني مكرس لكتابة ما عليّ كتابته قبل أن أذهب إلى نهايتي".
ومن نقطة ميلاده في قرية البروة الفلسطينية، قرب ساحل عكا حتى وفاته في الولايات المتحدة الأميركية السبت 9 أغسطس/آب 2008، بعد إجرائه لعملية القلب المفتوح في مركز تكساس الطبي، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته، بعد أن قرر الأطباء نزع أجهزة الإنعاش بناءً على توصيته، لايزال محمود درويش يحتل مساحة خصبة من الفضاء الشعري العربي، بما تركه من ميراث يفيض بالكثير من الحيوية الشعرية، ففي كل موقف اجتماعي أو عاطفي أو حتى سياسي تمر به فلسطين، أو حتى العالم العربي، فمن الصعب ألا يكون لدرويش قصيدة عبَّرت عنه، بما له من الشعر الرمزي الكثير، الذي ساهم بتطويره وإدخال حب الحبيبة وخلطه بحب الأرض الوطن.
العودة إلى رام الله
مات درويش قبل موت أمه بعام كامل، وُوري جثمانه الثرى في 13 أغسطس/آب في مدينة رام الله، حيث خصصت له هناك قطعة أرض في قصر رام الله الثقافي، وتم الإعلان أن القصر تمت تسميته "قصر محمود درويش للثقافة"، وشارك في جنازته آلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، وحضر أهله من أراضي 48، وكان العديد من الشخصيات من الوطن العربي في وداعه، ولايزال قبر درويش مزاراً لكل عشاق الشعر.. رحم الله شاعر الأرض محمود درويش.