تُهمل ثم تحترق..

نهاية عصر السينما

سينما ريفولي واحدة من أعرق وأجمل دور العرض في العالم

أمير العمري

ليس المقصود من عنوان هذا المقال “نهاية عصر السينما” نهاية الفن السينمائي، فهو مستمر ويتطور ويفاجئنا يوما بعد يوم بالجديد المدهش، لكن المقصود نهاية عصر مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي.

دور السينما تنتهي، وتُهمل ثم تحترق، وما هدمُ دار سينما فاتن حمامة في حي المنيل الشعبي بالقاهرة مؤخرا سوى حلقة من سلسلة حلقات ترمي إلى التخلص من دور السينما وإقامة أبراج سكنية وأسواق تجارية.

وأحدث هذه الحلقات الحريق الذي شبّ في واحدة من أعرق وأجمل دور العرض ليس في مصر فقط، بل في العالم، وهي دار سينما ريفولي، وأنا أكتب هذا الكلام بعد أن زرت أكثر من ثمانين مدينة حول العالم على الأقل.

أقيمت سينما ريفولي عام 1948 في قلب قاهرة الخديوي إسماعيل صانع النهضة المصرية الحديثة، وهي ليست ببعيدة عن ميدان الأوبرا الشهير الذي كان يضم دار الأوبرا المصرية التي أنشأها الخديوي إسماعيل عام 1869، وقد احترقت دار الأوبرا في 28 أكتوبر عام 1971، واليوم تحترق سينما ريفولي أكبر وأجمل دور العرض المصرية على الإطلاق.

بدأ مسلسل إغلاق دور العرض المصرية منذ بدء تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينات، فمع التضخم الذي نتج ارتفع سعر الأرض، وتزايد الاعتماد على التملك لا على التأجير، أصبح أصحاب دور السينما وملاّكها يفضلون هدمها لبناء أبراج تجارية وسكنية تدر عليهم دخلا كبيرا من حصيلة البيع، في حين انخفضت عائدات السينما كثيرا مع الانتشار الكبير للتلفزيون والفيديو وتوابعه (الأسطوانات المدمجة والإنترنت.. إلخ).

في مصر ابتكروا بدعة لا وجود لها في العالم دون أي اعتراض من “جماعة المثقفين” الذين بات لا يعنيهم أصلا أمر السينما

وبعد أن كانت مصر لديها 350 دارا للعرض في 1957 تدنى عددها تدريجيا ليصل إلى أقل من 90، وفي القاهرة وحدها أكثر من ثلاثين دارا مغلقة لا أحد يعرف مصيرها، وقد اختفت دور العرض تماما من معظم المحافظات المصرية.

ما حدث أنه أصبحت إدارة وتشغيل دار العرض السينمائي وصيانتها شديدة الكلفة، ممّا أدى إلى إغلاقها أو التخلص منها وبناء قاعات للعرض في المجمعات التجارية بعيدا عن وسط المدينة، وهي سمة كانت تميزها وتجعلها نابضة بالحياة.

والحال ليس بأفضل منه في بلاد العرب، ففي المغرب انخفض العدد من 247 قاعة عام 1985 إلى 31 قاعة فقط حاليا، وفي تونس أصبح عدد قاعات السينما 12 قاعة منها 10 في العاصمة فقط، وكانت الجزائر قد ورثت عن الفرنسيين حينما غادروا البلاد 450 قاعة لم يبق منها سوى أقل القليل، والكثير منها مهمل ومغلق ينتظر الهدم.

تختلف “دار السينما” عن “قاعة السينما”، فهي مثل المسرح، أي محفل ثقافي ذو نمط معماري وجمالي خاص، يتمتع بتقاليد معينة في العرض والفرجة. وكانت قد جرت مذبحة لمعظم دور العرض، بحيث تم تقسيمها إلى قاعات ضيقة تضم 50 أو 60 مقعدا، أي أنها أصبحت مجرد “عُلب” ضيقة تشبه “السينما المنزلية”.

وقد تمت “ماكدلة السينما” – نسبة إلى محلات “ماكدونالد” للوجبات السريعة- فعادة تتجاور هذه المحلات مع قاعات السينما داخل “المول”، وتتعيّش القاعات على بيع المرطبات والحلوى والمأكولات والفشار، أي كل ما يساهم في تدمير فكرة العرض السينمائي.

وفي مصر ابتكروا بدعة لا وجود لها في العالم دون أي اعتراض من “جماعة المثقفين” الذين بات لا يعنيهم أصلا أمر السينما، فهم مشغولون بتأليف القصص والروايات التي تمتلئ بحكايات الجن والعفاريت.

وهذه البدعة هي وقف عرض الفيلم في أي لحظة وإتاحة الفرصة لباعة المرطبات وغيرها للتحرك بين صفوف المقاعد لبيع ما يمكنهم بيعه قبل أن يتم استئناف العرض، وهو ما يشبه السياسة المتبعة في قنوات التلفزيون، فهي تبدأ في عرض فيلم أو مسلسل ما، ولكن ما أن يكتمل نزول عناوينه على الشاشة، إلاّ ويتوقف العرض وننتقل إلى فقرة للإعلانات التجارية قد تستمر لمدة 20 دقيقة، ولله الأمر من قبل ومن بعد!