يوظّفون رموزه في خلق تناقض بين الهويّات..

الدين إذ خطفه السياسيون في أوروبا

مظاهرات اليمين الغربي الشعبوي

وكالات (لندن)

في مظاهرات اليمين الغربي الشعبوي المتضخمة، من ميلان إلى درسدن، ومن وارسو إلى بودابست، ومن باريس إلى فلوريدا، مروراً بلندن، عادت الرموز الدينية لتطرح من جديد في قلب الحدث السياسي الغربي المعاصر، بعد غياب استطال لعقود حتى كدنا ننسى ظلّ الدّين الطويل المُلقى أبداً على كل شأن أوروبي منذ بدايات التاريخ المسجّل إلى الراهن من الأيام، إذ لا تخلو حلقة من حلقات التاريخ الأوروبي بمراحله المختلفة - سواء في العصور القديمة أو وقتنا الحالي مروراً بعصور الإقطاع الوسيط - من تأثير عميق للدين، ليس فقط لناحية تشكيل ثقافة، وطرائق عيش المجتمعات الأوروبيّة، وصياغة استجابتها للتحديّات، بل وابتداع الهويّات الذاتيّة المتخيّلة للأوروبيين في مواجهتها للآخر المختلف، حتى لتبدو المائة سنة الأخيرة، لا سيما منذ ثورات الطلاّب وإضرابات العمال عام 1968، وكأنّها استثناء الافتراق بين توأمين ملتصقين قضيا سحابة العمر لا يفترقان.


كان الدّين قد توارى في المائة سنة الأخيرة من شرايين حياة الأوروبيين السياسيّة المعاصرة رويداً رويداً، قانعاً بالانسحاب إلى جيوب منعزلة من المتدينين الممارسين لطقوسهم، بينما تحوّلت بعض رموزه الثقافيّة الطّابع إلى ما يشبه ظواهر فولكلور اجتماعي ضارب الجذور، لم تجد فيه الطبقات الحاكمة ما قد يتعارض مع هيمنتها على مجريات الأمور، فاستبقته إلى جوارها - دائماً من حيث الشكل المحض دون المضمون. وذلك في الوقت الذي أصبح فيه فضاء الثقافة السياسيّة الأوروبيّة العام متمحوراً بشكل أساسي حول مسائل العدالة الاقتصاديّة، وأنظمة الضرائب العامّة، والعلاقات الطبقيّة في إطار المجتمع الواحد.

لكن شيئاً ما تغيّر في الغرب بعد الأزمة الماليّة العالميّة 2008، ففقدت المجتمعات المحليّة ثقتها بالسّياسات الليبراليّة للنخب الحاكمة مقابل تصاعد غير مسبوق لمشاعر الغضب الجماعي الصاخبة، المعبّر عنها من خلال العداء للأجانب، والتمسك بالهويّات القوميّة الضيّقة والحروب الثقافيّة الطابع. هذا الغضب الجماعي الذي لم يجد له متنفساً في الأحزاب السياسيّة القائمة، أو داخل التيارات الثقافيّة السائدة، عبّر عن نفسه من خلال تصويت احتجاجي أوصل إلى مواقع السلطة، أو التأثير على صنع القرار، في غير ما بلد غربي، نخباً جديدة وزعماء شعبويين عزفوا ألحان عداء ضد الآخر لاقت هوى في قلب الغاضبين. وبما خص الحالة البريطانيّة، تسبب بتنظيم استفتاء «بريكست» 2015، الذي صوّتت فيه أغلبيّة بسيطة من الناخبين على مغادرة الاتحاد الأوروبي، وأغرق المملكة المتحدة في وحول أزمة سياسيّة خانقة عريضة.


لقد اعتبر معظم المطالبين بخروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي، وفق دراسات أكاديميّة واستطلاعات رأي، أن هاجسهم الأساسي كان موضوعه «الهجرة»، وهو ما تطابق وهاجس الناخبين الألمان، الذين صوّتوا في الانتخابات الفيدرالية الأخيرة لمصلحة قيادة حزب يميني متطرّف للمعارضة في البرلمان الألماني بسبب قلقهم من مسألة «اللاجئين والأجانب»، وكذلك الأمر في إيطاليا، حيث تسلم تحالف أحزاب فاشية يمينية قيادة البلاد، بينما كانت قد سبقتهم قطاعات واسعة من الطبقة العاملة البيضاء في الولايات المتحدة، اندفعت لإيصال سياسي شعبوي مثل الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ولو على حساب مصالحها الاقتصادية الذاتية، بسبب ما وصفوه بقلقهم من «الهجرة» وهواجسهم المتعلقة بمسائل من صنف «الاحترام القومي» و«الهويّة العرقيّة»، وما إلى ذلك.


السياسيون الشعبويون الذين تسلقوا على مظاهر الغضب الشعبي ضد التجربة الليبراليّة الفاشلة في الغرب، سارعوا إلى صرف ذلك الغضب الجماعي المعتمل في قلوب الأوروبيين من أرضه الطبقية إلى فضاء حروب الثقافات، عبر تصعيد جدل صاخب حول معالم هويّة الأغلبيّة البيضاء، عرقياً ولغوياً واجتماعياً، في مواجهة الأقليات والمهاجرين والأجانب، وهي جميعها معالم هويّة متخيّلة فقدت كثيراً من رصيدها داخل أجواء العولمة الليبراليّة التي سادت الغرب بعد سقوط جدار برلين، واندثار الاتحاد السوفياتي، ولم تعد كافية بمفردها فيما يبدو لتكريس التناقض مع ذلك الآخر القادم عبر البحار، ولذا استدعى هؤلاء رموز الدين - المسيحي تحديداً - كأداة استقطابيّة للغربيين (الطيّبين المظلومين من أصحاب البلاد الأصليين) ضد الشرقي (الآخر)، المفترض ضمناً أنه مسلم يحمل وزر تاريخ طويل من صراع الحضارات، دون أن يكون هؤلاء السياسيّون أنفسهم من ممارسي طقوس ذلك الدين، أو حتى من معتنقي قيمه الأساسيّة.
يسجّل عالم السوسيولوجيا الأميركي خ. كازانوفا، في مقالة له، هذا التحول بتوظيف محدّدات الهويّة على الساحة الأوروبيّة، بمقارنة كيف كان العمال المهاجرون الأتراك في ألمانيا يعتبرون أتراكاً لا مسلمين، وكذلك العمال الباكستانيون في بريطانيا الذين طالما اعتبروا باكستانيين لا مسلمين، وأيضاً رفاقهم المغاربة والجزائريون في فرنسا الذين طالما اعتبروا جزائريين أو مغاربة لا مسلمين.

كل شيء تغيّر اليوم في زمن الشعوبيّة، وتحوّل هؤلاء بعد أن انخرطت أجيال منهم في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة لبلادهم الجديدة، تحولوا فجأة إلى مسلمين أولاً، ينتمون جميعاً إلى كتلة هلاميّة واحدة، نقيضة لكل ما هو غربي، تحمل معها تاريخاً متطاولاً من العداء المتبادل والحروب الدمويّة منذ أيام الحملة الصليبيّة الأولى، ولذا فمن الضرورة بمكان - في وجهة نظر الشعبويين - توظيف الرمز الديني المسيحي لمقتضيات مواجهتها.


وعلى الرّغم من أن بعض الشعبويين في شرق أوروبا حصراً يستفيدون لناحية تأييد الجماهير التي أعادت اكتشاف هويتها الدينيّة، بعد سنوات الإقصاء خلال العهد الشيوعي، فإن أغلب الكنائس والفئات المتدينة غرب أوروبا والولايات المتحدة تميل إلى النأي بنفسها عن هذا التوظيف الفج للرموز الدينيّة في إطار الحروب الثقافيّة التي يدّق السياسيّون الشعبويون طبولها. وتؤكد دراسات أجرتها عدة مؤسسات أكاديميّة أن خطف الرموز الدينيّة من قبل السياسيين الشعبويين يحقق لهم قبولاً أوسع لدى غير المتدينين، بينما تبدو أوساط المتدينين التقليديّة بمأمنٍ من تصديقهم، وهو أمر تأكد في عدة دول غربيّة، وعلى نحو لافت، مما يشير إلى انقسام محتمل بين يمين تقليدي ديني محافظ ويمين آخر شعبوي يتدثّر بعباءة الدّين.


وللحقيقة، فإن أوساط الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا تمثّل واحدة من أعلى الأصوات المناهضة لليمين الشعبوي الجديد، كما قاومت الكنيسة الإنجليكانيّة في بريطانيا محاولات الأحزاب اليمينيّة المتطرفة اللعب بورقة الدين بوضوح ضد المهاجرين، بينما عجزت أحزاب فرنسا وإيطاليا اليمينيّة عن استقطاب المزيد من الناخبين الكاثوليك عبر استدعاء الرموز الدينية إلى ساحة الدّعاية السياسيّة. وعلى الرّغم من أن التيار الديني في الغرب لا يزال بمجمله حتى الآن يعيش مرحلة تصدّ سلبي للسياسة الشعبويّة، لا سيما أن أغلبيته تنتمي إلى الطبقات الوسطى، مقارنة بجمهور الشعبويين الذي أغلبه من الطبقة العاملة، فإنه ليس هنالك ما يمنع، في ظل الفوضى الشاملة التي تضرب الأجواء السياسيّة والثقافيّة الغربية، من توجّه التيار الديني خلال قادم الأيام إلى الانخراط بصفة فاعلة في الصراع السياسي كلاعبٍ أساسي، لا مجرد داعم للتيارات المحافظة التقليديّة. وعندها، يمكن أن يجد نفسه مضطراً لاتخاذ مواقف صريحة ضد السياسيين المتاجرين بالدين، أو ربما التحالف معهم، وفق تموضعات سياسيّة مرحليّة معينة، الأمر الذي لن تكون نتيجته على الحاليْن سوى مزيد من الاستقطاب في مجتمعات تعيش بالفعل انقسامات عموديّة مصطنعة منذ بعض الوقت.


حتى ذلك الحين، فإن معبد السياسة الأوروبي حاشد بتجار اختطفوا الدّين، تجار بضاعتهم البغضاء وشيطنة الآخر، أخبرنا عنهم التاريخ أنهم ما تولوا السلطة يوماً إلا ليسفكوا الدماء، ويشنوا الحروب. إنها أزمنة مظلمة حزينة.
معظم المطالبين بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان هاجسهم الأساسي موضوع الهجرة