ملامسة عقول القراء...

قوة الكلمات تنعش قلب العاشق

الحب والكتابة عالم متصل (لوحة للفنان وليد نظامي)

أحمد رجب

الروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي واحدة من هؤلاء الواقفين على التخوم بين الفلسفة والأدب، فقد ترجمت كتبا لكولن ولسون، كما قدمت حوارات ودراسات عديدة، منها كتاب “نزهة فلسفية في غابة الأدب – حوارية بين الروائية الفيلسوفة آيريس مردوخ والفيلسوف بريان ماغي”، وآخر إسهاماتها في هذا المجال تمثل في الكتاب الذي أصدرته دار المدى بعنوان “قوة الكلمات”.

تقول في مقدمته، “شكلت علاقة الأدب بالفلسفة وتأريخ الأفكار والاشتغالات المعرفية الأخرى هاجساً لم تخفت جذوته المتقدة في عقلي، منذ أن بدأت في تعاطي الكتابة الإبداعية بجميع أشكالها المعروفة. وكان السياق الذي حرصت عليه دوماً هو ترجمة مقالات وحوارات وسير ذاتية ومذكرات وكتب تتوفر على رصانة بينة ممتزجة بطراوة في التناول، وذات وصلة حية بالحياة النابضة، بعيداً عن الصلابة والصرامة الأكاديميتين، وذلك بهدف جعل تلك الترجمات قادرة على بلوغ قلوب القراء وملامسة عقولهم الشغوفة وإثراء حيواتهم الثمينة”.

كيف نحب؟

الكتاب ذو الثلاثمئة صفحة يشير عنوانه الفرعي إلى قسمين هما “حوارات وأفكار”، يحوي أولهما ترجمات لتسعة حوارات مع مفكرين أثارت كُتبهم وأفكارهم جدلاً واسعا، ومنهم زيغمونت باومان الذي توفّي قبل بضعة أشهر، وكان واحدا من أكثر علماء الاجتماع تأثيرا، وبدأ الحوار بسؤال عن مقولته بأن البشر نسوا كيف يحبون، يقول باومان “إن نمط إيجاد شريك على شبكة الإنترنت بات شيئاً مماثلاً لنمط التسوّق الإلكتروني، فإذا ما أراد أحدٌ ما شريكا فإن مواقع المواعدة الإلكترونية ستُريه قائمة أو كاتالوغاً وهنا يكمن ما أريد قوله، فنمط العلاقات بين المستهلكين والبضائع صار مماثلا تماما لنمط العلاقات بين الشركاء الإنسانيين”.

ويضيف باومان: “الخطورة العظمى في ذلك النمط من العلاقات هي أنها باتت تتماثل مع الطريقة التي نتعامل بها مع الموجودات الدنيوية التي ننتظر من ورائها منفعة مؤكدة فنحن في العادة لا نتعهّد مثلا بتكريس شغفنا الكامل بكرسيّ ما؛ إذ ليس ثمة من مسوّغ يجعلني أتعهّد بإبقاء ذلك الكرسي في عهدتي حتى يوم مماتي، وما يحصل في العادة هو أنني متى ما لم يعد الكرسي ملائماً لي فإنني أبتاعُ واحدا غيره. تلك ليست بالعملية الواعية بل صارت الطريقة التي تعلّمنا أن نتعامل بها مع العالم والكائنات الإنسانية الأخرى”.

كتاب يؤكد على العلاقة بين الحب والفلسفة
كتاب يؤكد على العلاقة بين الحب والفلسفة

ويرى باومان أن “الحب الحقيقي في المتعة المُراوِغة ( والطاغية أيضاً ) لِـ”أنتَ وأنا” عندما يصبحان واحداً، السعادة العظمى التي تغمر بها حياة شريكك وتصنع علامة فارقة في حياته حتى لو كان صنيعك لا يعني الشيء الكثير لك أنت، أن يشعر شريكك دوماً بأنك موضع حاجته الدائمة وأن ما مِن بديل لك في حياته – هذه كلها أمور تبعث البهجة المنعشة في نفس المُحِبّين، وهي أمور عصية على التحقق عندما نكون غارقين في حدود أنوياتنا الذاتية المعزولة التي تتحرّك طبقاً لدوافع مصالحنا الشخصية وحسب”.

يرى إرنستو ساباتو أن دراسته للرياضيات والفيزياء منحته “نوعاً من الهجرة التجريدية والمثالية نحو الفردوس الأفلاطوني بعيدا عن الفوضى التي تطبق على خناق عالمنا، ولكني سرعان ما وجدتُ أن الإيمان الراسخ غير المقيد وغير المشروط الذي يكنّه بعض العلماء لموضوعات الفكر ‘الخالص’ والعقلنة الكاملة جعلهم يهملون كل شيء ذي صلة بالجانب الخفي من الطبيعة البشرية. مثل: طبيعة اللاوعي، والأساطير التي تقع في موضع القلب لأيّ تعبير فني ذي أصالة”.

ويضيف ساباتو أن ما يحققه العلم من إنجازات يقابله ما يشبه الهزيمة الأولمبية التي تنهش في جسد الإنسانية، فسيادة العلم أدت إلى تقزيم الفرد وجعله مجرد ترس صغير في آلة عملاقة، كما أن المنظّرين الرأسماليين والماركسيين ساهموا جميعاً في ترسيخ نظرة الفرد الذي “يذوب” في الجموع حيث يُختَزَلُ شقاء الروح وعذابها المروّع إلى محض انبعاثات إشعاعية يمكن قياسها فيزيائياً، ويعتقد ساباتو أن الرواية توفّر إجابات لكل أنواع الأسئلة البشرية المأساوية والميتافيزيقية من خلال الرمز والأسطورة ومحاولة ترسيم الخواص السحرية للفكر الإنساني، فكل شخوص الروايات العظيمة هم حقيقيون بقدر حجم الحقيقة التي يحملها “الواقع” ذاته، فإذا كان الواقع يحمل صلةً ما بفكرة الاستمرارية فإن شخصية دون كيخوته التي خلقها خيال سرفانتس هي حقيقية أكثر من تلك الأشياء التي تحيط بنا لأنها شخصية خالدة لا يقوى عليها الفناء.

أشكال الحب

أما الأفكار، فتعبر عنها المقالات التي اختارتها لطفية الدليمي للقسم الثاني، لتؤكد على العلاقة بين كل من الحب والرواية والفلسفة، ومنها مقدّمة كتاب “معاني الحب: مقدّمة في فلسفة الحب” للمفكر روبرت إي. واكونير، التي رصد فيها أشكالا ستة للحب، أولها الحب الإيروتيكي المؤسس على المفهوم الأفلاطوني وهو ليس متماثلا مع الرغبة الجنسية ولكنه يدفعها باتجاه الكمال. يقابله المفهوم المسيحي عن الحب باعتباره “إنكار الذات الخالص” وخلاصته أن الشخصية البشرية يمكن فهمها بطريقة أفضل لا من خلال ما نأخذ من الآخرين بل بقدر ما نمنح للآخرين.

ويعتبر الحبّ الرومانتيكي كشكل ثالث مزيج بين الشكلين الأولين، بينما الرابع وهو الحبّ الأخلاقي أو الحقيقي، وهو لا يهمل النتائج المترتبة على الانسياق المتوهج مع الحب بفعل النشوة الجامحة بل يزيد عليها بكونه ينقاد إلى مبدأ ذاتي يتمحور على الاستقرارية والاستقامة الأخلاقيتين، أما الحبّ المتبادل فتتضمّنه المفارقة القائمة على فكرة “أن يجد شخص ما ذاته في الآخر” والسادس هو الحبّ باعتباره شكلاً من أشكال السلطة، ويختص هذا الشكل من الحب بفهم الآليات الخاصة بمقاربة موضوعة “أن أجد نفسي في الآخر” أو إن الآخر يمتلك سلطة من نوع ما تجعلني أحتاجه. ويترتّب على هذا الأمر أنني ما لم أفهم الآخر فلن أفهم نفسي، وهذا ما سيقود إلى التأرجح بين الرغبة والخوف: الرغبة في أن أحوز اعتراف الآخر وحبّه لي والخوف في الوقت ذاته من أن ينسحب من حياتي في أي وقت.