غواية بدأت بمشهد قصير..

عن القلق الإيجابي ونظرة العين الموهوبة

البلاغة النادرة للعين الموهوبة تتجلى في مشاهد مهمة للممثل

سعد القرش

كنت قد نسبت مقولة “مساكين هم أنصار الحرية، يأتون ليفكوا عنها إسارها، فيقعون في الأسر” إلى عدلي يكن، ثم تشككت في أن يكون هذا الرجل قائلها، وأرهقني البحث شهورا. ولم أشأ أن أكون مثل عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة وأنا طالب، ولم أسامحه رحمه الله؛ لأنه لم يضف سطرا إلى الطبعة الأولى من كتابه “تحليل مضمون الدعاية في النظرية والتطبيق” (1974). وكانت الطبعة الجديدة تمضي بنا إلى أجواء عام 1972، ولا تتجاوزه ولو إلى حرب أكتوبر 1973.

في ذلك الوقت، قبل أكثر من ثلاثين عاما، تأمّلت حق مستهلك السلع في خدمة ما بعد البيع، وفكرت أن يكون للقارئ أيضا حق لدى الكاتب في خدمة ما بعد النشر، وألزمت نفسي بالبحث لتوثيق مقولة نسبتها خطأ إلى عدلي يكن، إلى أن عثرت عليها في صفحة 341 من سيرة خالد محيي الدين “.. والآن أتكلم” منسوبة إلى ولي الدين يكن (1873ـ 1921)، فاطمأن قلبي.

 ومن لندن جاءني قلق آخر من صديقي الدكتور محمد إدريس، وهو زميل دراسة قديم، إذ قرأ مقالي “فيلم ‘الكرنك’ أنشودة لحماية آدمية الإنسان وتحريره من القهر”، المنشور في صحيفة “العرب” في 4 أغسطس 2018، ونبهني إلى خطأ في تأويل مشهد قلت فيه إن إسماعيل الشيخ (نور الشريف) فشل في أول اختبار لرجولته، بعد أن كسّروا روحه في المعتقل، ومسخوه عينا تتلصص وتبلغ عن الناس.

 وفي اختلائه للمرة الأولى بخطيبته زينب دياب (سعاد حسني)، كان عاجزا في لحظة منذورة للمتعة؛ فكيف لمهزوم أن ينتصر في السرير؟ وكتب إليّ محمد إدريس الجراح المقيم في بريطانيا أن إسماعيل لم يكن عاجزا، وإنما صعقته مفاجأة أن خطيبته فقدت عذريتها، بعد اغتصابها في المعتقل.

وعدت إلى المشهد، ورأيته على حق، فحين نهض عنها إسماعيل، اعترف لها بأنه احتمل ذل التعذيب وقسوة الإجرام، لكي يبعدهم عنها ويحميها منهم. وكانوا قد هددوه باغتصابها أمام عينيه، إذا لم يعترف بأنه شيوعي محرض للعمال على الإضراب، فاشترى باعترافه الكاذب صون خطيبته.

 والأهم من الكلام هو نظرة العين اليسرى لنور الشريف، مشهد صامت مدته بضع ثوان أراها أفضل ما في الفيلم، وعين الشاب تلخص الخذلان والخديعة والإهانة والرغبة في الانتقام والنقمة على الجميع. مفاجأة أكبر من قدرة أعصابه على التحمّل، فانفجر الجسد بغليان داخلي، احتراق ذاتي، وكانت العين أضعف نقطة تقذف الحمم البركانية، ببلاغة نادرة.

هذه البلاغة النادرة للعين الموهوبة تتجلى في مشاهد مهمة للممثل، وقلما يتمتع “النجوم” بهذه الموهبة، ما لم يكن النجم ممثلا من فصيلة جاك نيكلسون ومارلون براندو وميريل ستريب ودانييل داي لويس. وفي فيلم “الأرض”، خرجت القرية لاستقبال الخارجين من الحبس، وفي مقدمتهم محمد أبوسويلم (محمود المليجي) بنظرة عين منطفئة، لا تفرح بحرية منقوصة. فقد الرجل شاربه في الحبس، وأحسّ بالقهر والهوان، وعينه مكسورة أمام مهنئيه، وانشغل بمداراة وجهه، وتغطية الشارب غير الموجود، يتحسسه ولا يجده فيتحسر. وظلت الدمعة عالقة، لا يريدها أن تفضح ضعفه وعجزه، ولكنها سقطت بعد ثوان هي مدة لقطة توجز إعجاز البلاغة في التعبير.

تثرى السينما المصرية بمشاهد تتسع فيها الرؤية فيتوارى الكلام، ولا أصدق من عين ذكية تجيد التقاط قلق الروح وتوتراتها. لم تنطق الممثلة نادية لطفي كلمة واحدة في فيلم “المومياء”، وكان الدور لامرأة مهمتها استمالة الشاب الحائر ونيس (أحمد مرعي)، غواية بدأت بمشهد قصير صامت، عين شبقة يراها الكثيرون النظرة الأكثر حسيّة في السينما المصرية.