صراعات في حقل التعليم والتربية..

البؤس السياسي في الجزائر ينخر منظومة التعليم

نقل البؤس السياسي إلى المنظومة التعليمية هو نوع من تفكّك الوضع العام بكل أبنيته

أزراج عمر

في خضم التغييرات البراغماتية المفاجئة على مستوى كبار المسؤولين في الأجهزة العسكرية والأمنية التي شرعت مؤسسة الرئاسة الجزائرية في تنفيذها منذ مدة وحتى الآن لتحقيق مجموعة من الغايات وفي مقدمتها إظهار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بمظهر الرجل القوي الوطني خلافا لما تروج بعض أحزاب المعارضة، ها نحن نشاهد الآن طفو صراع محتدم حول التعليم بين الحكومة وبين النقابات المدنية المتخصصة في شؤون التعليم.

ويعود الصراع إلى تعفن مشكلة تسييس النظام الجزائري لمنظومة التعليم الذي حوّل إلى حقل تجارب سياسية وإلى  جهاز أيديولوجي يستخدمه لصالحه، الأمر الذي أدى ولا يزال يؤدي إلى العبث بمستوى هذه المنظومة بيداغوجيًّا، وتكوينا للطلاب والطالبات فضلا عن فك الارتباط بينها وبين التنمية الوطنية، الشيء الذي جعل التعليم الجزائري مجرد شكل فضفاض وميدانا لتخريج أنصاف المتعلمين وأفواج العاطلين عن العمل.

من الواضح أن غليان الساحة السياسية الجزائرية بشكل عام ومنظومة التعليم بشكل خاص أمر لا يبشر بأي انفراج  لأن خلفيات وتداعيات هذا الصراع الناشب راهنا بين وزارة التربية والحكومة من جهة وبين نقابة الاتحاد الوطني لعمال التربية والتكوين ونقابة التعليم المستقلة إلى جانب مجموعة من البرلمانيين الممثلين للتيار الإسلامي السياسي الجزائري من جهة أخرى متشعب الأسباب وله أذيال كثيرة تتصل بالدرجة الأولى بتدهور الحياة السياسية التي تغرق البلاد فيها وبصورة أكثر دراماتيكية بعد تضخم العهدات الرئاسية التي بدّدت الآمال في بناء التعددية السياسية في الجزائر المعاصرة بعد إصابة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بمرض مزمن أبعده عن ممارسة نشاطه السياسي الاعتيادي منذ سنوات عدة.

 والحال أن نقل البؤس السياسي إلى المنظومة التعليمية هو نوع من تفكّك الوضع العام بكل أبنيته، وهكذا فإن ما تروج له وسائل الإعلام الجزائرية الممولة من طرف النظام من خلافات بين وزارة التربية والتعليم وبين النقابات التابعة للمجتمع المدني حول تدريس مادتي التاريخ والتربية الدينية في مرحلة البكالوريا يدخل مباشرة في إطار اللعب السياسي الشكلي.

ويبدو أن الخلاف بين هذه الجهات المذكورة آنفا يُحصر راهنا في عدم وضوح مواقف الحكومة التي عبرت عنها  تصريحات وزيرة التربية والتعليم نورية بن غبريط بخصوص تدريس أو عدم تدريس مادتي التاريخ والتربية الدينية المرتبطتين ارتباطا مباشرا بقضية الهوية الوطنية في السنة الدراسية القادمة، علما أن إضفاء الطابع الديني على التعليم الجزائري ليس نزوة من نزوات السيدة بن غبريط بل هو وضع نمطي معروف ومعمول به منذ الاستقلال، بل إنه قد بلغ ذروته السلبية عندما خلق النظام الحاكم في الماضي القريب قطبين متضادين من التعليم، هما التعليم المدعو بالعصري والتعليم المدعو بالتعليم الأصلي والشؤون الدينية، الأمر الذي في تفريخ “الأصولية الإسلامية السياسية”.

 على أساس ما تقدم فإن الفهم الصحيح لما يحدث من صراعات في حقل التعليم هو مجرد تحصيل حاصل للبؤس السياسي الذي آلت إليه الأوضاع في الجزائر، وبدون شكّ فهناك في خلفيات الصراع ممثلون وفاعلون كثيرون يتحركون من وراء الستار وفي المقدمة جماعات الضغط التي لها ارتباطات ببعض أحزاب المعارضة وشريحة المعرّبين الحانقين على التيار الفرنكوفوني الذي تصنف الوزيرة نورية بن غبريط ضمن مداره.

ومن هنا فإن دلالات هذا الصراع ليست ذات محتوى حضاري ناشئ عن تصورات ومشاريع ثقافية وفكرية متنوعة بقدر ما هي تصفية حسابات تنفذ في صورة حروب مناورة وحروب مواقع بين الخصوم. ولا شك أن حقل التعليم يحتاج إلى تغيير راديكالي شجاع ومؤسس على العلم والمنظور العصري ولكن هذا النوع من التغيير المنشود مطموس ومغيّب إلى يومنا هذا حيث يعوض مع الأسف بمعارك وهمية لا طائل من ورائها.

من الواضح أن العناصر البشرية التي تحتل مناصب صنع القرارات بوزارة التربية الوطنية تفتقد إلى الكفاءة ولا يوجد في صفوفها مفكرون تربويون متخصصون وقادرون على تحديث وعصرنة التعليم الجزائري بل إن السائد في هذه الوزارة هو نفر من التقليديين وأنصاف المتعلمين، وجراء ذلك فإن جميع اللجان العاملة فيها قد فشلت في إنتاج أجيال من التلاميذ الحداثيين فكرا وسلوكا وفاعلية في الميدان العملي حتى في المرحلة التي شهدت تجربة التعليم الأساسي المستوردة حينذاك من ألمانيا الشرقية الشيوعية بدون خطة ووعي. فالقضية إذن ليست إدراج مادتي التاريخ والتربية الدينية في امتحانات البكالوريا بل ثمة صراع حول المناصب وتحديدا حول قيادة وزارة التربية الوطنية من جهة وحول مشكلة الهوية العلمانية أو الهوية الدينية للتعليم الجزائري.

وبخصوص هذه الأخيرة فإن الذين اتهموا وزارة التربية بالغموض بخصوص مادة التربية الدينية هم إما من بقايا جمعية العلماء المسلمين الجزائرية أو من المنتمين إلى أحزاب الإسلام السياسي. وفي الواقع فإن طرح قضية الهوية الوطنية من طرف معزولة هو صيد في الماء العكر لأن هذه القضية هي قضية كل الجزائريين وليست بذخا نخبويا كما تصر على ذلك السلطة الحاكمة، ومن يقلد خطاباتها ومواقفها بوعي شقي غالبا. وفي الحقيقة فإن غياب النقاش العلمي حول التعليم وحول الهوية والتنمية وتنظيم المجتمع هو سبب عقم ما يقوم به النظام منذ سنوات طويلة من تسييس للتعليم الجزائري.