لملمة أشتات الجماعة..

مامدى إفلاس الفكرة الإخوانية في مصر؟

الاخوان المسلمين في مصر

عمارعلي حسن

إن الفكرة التي قامت عليها «جماعة الإخوان» قد وصلت إلى طريق مسدود، بعد أن ذهبت عنها إمكانيات التطوير والمراجعة والتأهيل لملائمة زمن مختلف عن ذلك الذي انطلقت فيه قبل سبعين سنة.

يعول «الإخوان» في بقاء فكرتهم حية على محنتهم الحالية التي أدخلوا أنفسهم فيها بالتحالف والتنسيق والتفاهم والتواطؤ مع تجمعات وتنظيمات ما تسمى بـ «السلفية الجهادية» التي تمارس العنف والإرهاب، وابتعادهم التام عن طريق الثقافة المدنية التي كانوا يعطون إشارات أحياناً، عبر بعض قيادتهم، بأنهم قابلون للمضي فيها، عبر استيعاب قيم الحداثة وتصوراتها ومختلف اتجاهاتها. لكن هذا التعويل لن يجدي نفعاً، لأن الفكرة نفسها تنهار كلما وضعت في اختبار حقيقي، حتى في ظروف عادية لا «محنة» فيها ولا «مظلومية».

كان أول اختبار للفكرة «الإخوانية» أيام مؤسسها حسن البنا، الذي بدأ بحديث عن «الدعوة» لم يصمد سوى خمس سنوات وانتقل به إلى «الدولة»، مبرهناً على أن تناول المسائل الخاصة بالخيرية والنفع العام وطهارة النفوس وإصلاح المجتمع، لم تكون سوى تمهيد لجمع الأتباع، بينما كان المقصد الجوهري يدور في رأس البنا نفسه، وهو تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا، واختزال الأمة في جماعة، والانحراف بالموعظة الحسنة إلى إجبار وإكراه، مارسه بإفراط «التنظيم الخاص» الذي أنشأه البنا، وأشرف عليه، وأعطاه إشارات بالاغتيال والتخريب، ثم حاول التنصل منه حين انكشف أمره، وضاق الخناق على جماعته، بقوله الشهير الذي وصف فيه أعضاء هذا التنظيم: «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين».

حاول «الإخوان» تجديد فكرتهم من خلال كتاب وضعوا عليه اسم مرشدهم الثاني حسن الهضيبي عنوانه «دعاة لا قضاة»، لكن لم تمر سنوات حتى ظهر أن ما جاء في هذا الكتاب لم يكن سوى مراوغة ومهادنة أو «تُقية»، إذ جاء اصطدام «الإخوان» سريعاً مع الأفكار التي كان يتبناها نظام عبد الناصر، وراقت في أيامه لأغلبية المصريين، وصنعت اتجاهاً فكرياً، لم يخاصم الإسلام، كما زعم «الإخوان» دوماً، إنما وظفه في محاولة ترجمة أشواق الناس إلى العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني، والدور الإقليمي الملموس، وإنْ كان قد أخفق في مجال الحريات، ولم يطور آلياته المدنية، بما سمح لـ«الإخوان» بالعودة على يد رجل آخر من نظام يوليو هو الرئيس السادات، عبر استعمال الجماعة في تصفية «اليسار» المصري.

وبينما كان «الإخوان» يعانون خواء فكرياً، ظهر في حياتهم سيد قطب الذي انتحل الكثير من أفكار أبو الأعلى المودودي، لاسيما مسائل الحاكمية والجاهلية الجديدة والعصبة المؤمنة أو استعلاء الإيمان وتقديم رابطته على روابط الدم والجيرة والمصلحة المشتركة. ووظف قطب براعته في الصياغة ليصنع أيديولوجية هائمة، تخاطب العواطف وتزدري العقول، دون أن تجهر بهذا، فاستقطب أفئدة اتباع «الإخوان»، ومعهم الكثير من الجماعات والتنظيمات المتطرفة، لكن مثل هذه الأفكار المتطرفة كانت في جوهرها خطوة إلى الوراء.

وبينما راح بعض «الإخوان» يجارون لفظاً الجدل العام حول المسألة الديمقراطية، بما توجبه من إيمان جازم بالتعددية وتداول السلطة واحترام الحقوق والحريات، كانت أفكار قطب تتمكن من قلب الجماعة، وهي مسألة انتبه إليها الباحث الراحل حسام تمام في بحثه المهم «تسلف الإخوان» وشرح جوانبها، مبيناً عيوبها القاتلة، ووقوفها عقبة كؤود أمام إمكانية تطور أفكار الإخوان، واصفاً هذا بأنه «تآكلٌ للأطروحة الإخوانية». وحين وصل «الإخوان» إلى السلطة تبين لكثيرين أن خطابهم السياسي المعلن لم يكن سوى طلاء يخفي تمكن «القطبيين» من أفكار التنظيم.

يعول «الإخوان» الآن على ضعف التيار المدني في مصر وغيرها، لمشكلات عديدة، في إمكانية لملمة أشتات الجماعة والعودة من جديد، لكنهم يغفلون في سعيهم هذا أن فكرتهم لم تعد صالحة لزماننا، ولا يدركون أن مشكلتهم لم تكن إدارية، ولا مرتبطة بالصراع على السلطة، إنما لأن تصورهم لم يعد صالحاً لتسويقه على نطاق واسع وسط أجيال جديدة، انكشف أمامها المشروع «الإخواني»، وظهر تهافته، ولا تلوح في الأفق أي بوادر تبين أن أسسه ومنطلقاته قابلة للمراجعة، أو أن الواقفين على حراسته يمكنهم إبداء أدنى حد من المرونة في سبيل إجراء جراحة عميقة عليه كي يظل قابلا للتداول، وربما يعود هذا إلى إدراكهم أن مثل هذه الجراحة، التي لا يفكر قادة الجماعة فيها أصلاً، ستودي بالفكرة «الإخوانية» تماما، بعد أن صارت هشة متداعية.

إن الانفتاح على العالم، وتدفق الأفكار والقيم والتصورات، وتزعزع الهويات المسكونة بالتعصب والجمود، يطوق الفكرة «الإخوانية»، وينفذ إلى قلبها ليفككها في نعومة وهدوء، يظن أغلب «الإخوان» أنه أمر يتم بفعل سلطة تعاديهم، أو نخبة مدنية تواجههم، لكنه في الحقيقة هو بفعل تغير الحال والمآل، وفق قانون الطبيعة وسنة الحياة التي تقول: «إنك لن تستطيع أن تنزل النهر مرتين لأنه المياه تتجدد باستمرار».