يعيدون الاعتبار إلى حواسنا التي غيبها الفقر..

الموسيقيون يفتحون أبواب الغيب

في كل لحظة موسيقى هناك إلهام

فاروق يوسف

مَن يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية؟ المترفون بالتأكيد، ولكن أي ترف؟ طبعا لن يكون التذكير هنا بعار الفقر ضروريا، المجتمعات التي تحترم نفسها هي تلك التي تنجو من عاهة الفقر.

الفقر أعمى وأصم، لا يرى ولا يسمع، المجتمعات التي تقدر الموسيقى لا تسمح بأن يكون أبناؤها صُما، بل إنها لا تسمح بتقييد الكلام، ذلك لأن الموسيقى في حاجة إلى مَن يشهق ويتأوه ويصرخ من أجل أن يصل إلى سلمها فيرتقيه درجة درجة.

تساعد الموسيقى أولئك البشر الذين فقدوا نعمة البصر على النظر، ذلك لأنها تعينهم على الانتصار على الظلام بنور جناتها الخيالية، الموسيقى في حقيقتها هي عدوة الفقر في كل أنواعه المادية منها والروحية.

هناك مَن يكذب علينا تحت مظلة شعارات ثورية مضللة وملفقة، هناك مَن يتحدث عن الموسيقى الفلكلورية باعتبارها فعلا يؤكد الشعب من خلاله خصوصيته، وهي كذبة يُراد من خلالها طمر ذلك الشعب بأطيان محليته، هناك مَن يلوح بالذائقة الشعبية وهو فعل يقوم على مديح التعفن.

لقد سعت الموسيقى منذ عصر الباروك إلى تحرير الإنسان من محليته الرائجة وذائقته الرخيصة لترتفع به إلى الموقع الذي يؤهله لأن ينتصر على فقره، وهنا بالضبط تكون الموسيقى سببا في التمرد على الأحوال والأوضاع التي تبرر الفقر وتدافع عنه.

مَن يستمع إلى موسيقى باخ وفيفالدي وبتهوفن وموتزارت ومندلسون هو إنسان تحرر من ماضيه، وهو أيضا إنسان يسعى إلى صناعة مستقبله، ذلك المستقبل الذي يعد بالنقاء والأخوة والمساواة والصدق والعمل. تلك موسيقى تحرض على أن يكون المرء أكثر طهرا ونزاهة وهي تقربه من حقيقته الإنسانية، كائنا قُدر له أن ينشئ عمارته الروحية على الأرض.

الموسيقيون يفتحون أمامنا أبواب الغيب ويجعلون الجنات ممكنة وهم يعيدون الاعتبار إلى حواسنا التي غيبها الفقر، في كل لحظة موسيقى هناك إلهام هو في حقيقته دعوة إلى التمرد من أجل حياة جديدة، الموسيقى ترف ضروري.