جميل راتب..

جميل راتب.. رحلة بين البداية الفرنسية والنهاية على أرض مصر

جميل راتب

رحل الفنان المصري جميل راتب، اليوم الأربعاء، عن عمر يناهز 92 عامًا، بعد تدهور حالته الصحية بسبب التقدم في السن.

وعاش الفنان “راتب” جلّ حياته لأجل الفن، حتى أنه فضل الوحدة معه على إنجاب الأطفال رغم عمره الطويل.

وقضى جميل راتب مسيرته الفنية بين فرنسا ومصر، فيما ظلت المعلومات متضاربة عن أصل والدته وهل هي فرنسية أم مصرية صعيدية.

عائلة محافظة وروح حرَّة

ولد الفنان جميل راتب لأب مصري وأم قيل إنها مصرية صعيدية وابنة أخ الناشطة المصرية هدى شعراوي، فيما ذكرت مصادر أخرى أن والدته فرنسية.

وترعرع “راتب” في أسرة غنية محافظة، وحين أنهى دراسته الثانوية كان يبلغ 19 عامًا من عمره، فدخل مدرسة الحقوق الفرنسية وبعد السنة الأولى سافر إلى العاصمة باريس لاستكمال دراسته.

وظل حلم التمثيل يدغدغ جميل، ومع لحظة وصوله للعاصمة باريس مع نهاية الحرب العالمية الثانية، قرَّر الانخراط في الفن، خاصة مع تزايد الاهتمام بالفن والأدب في أوروبا في تلك الفترة.

لكن أسرة “راتب” تعلق طموحها في دراسته للحقوق والسياسة، فيما اكتفى هو بالذهاب ليوم واحد فقط لكلية السياسة، ليسوقه القدر إلى معهد تمثيل خاص، وفور علم أسرته الممانعة تمامًا دخوله مجال التمثيل لما يشكله هذا الأمر من “عار” في عرفها، قطعت عنه مصروفه.

ومع انقطاع المال، بدأت رحلة جميل راتب مع الحياة، إذ اضطر للعمل ككومبارس، ومترجم، ونادل في المقاهي، و”شيال” في أسواق الخضار، كي يؤمّن مصاريفه الدراسية والشخصية.

وفي حديث له عن مسيرته الفنية خلال استضافته في “صاحبة السعادة” يقول جميل إن هذه الظروف أثرت عليه كثيرًا وتعلم منها درسًا عظيمًا، كما بدأ يهتم بالشأن السياسي؛ لأنه شعر بوجود طبقات في المجتمع مرفوضة ومنسية، وتابع: “الحقيقة مكنش عندي ثقافة سياسية خالص، لكن قابلت ناس هناك بيجاهدوا”.

فرنسا الانطلاقة الأولى

“عندما يؤدي دوره على الخشبة في مسرحية (الوريث) فإنه يخطف أنظار الحضور بأدائه القوي وعينيه الحادتين”.. بهذه الجملة التي نشرتها إحدى الصحف الفرنسية في تقرير لها حول مشاركة الفنان جميل راتب في مسرحية “الوريث”، انطلق “راتب” لتستمر رحلته الفنية في باريس 28 عامًا قبل عودته لاستكمال مشواره الفني في مصر.

وعكس جميع الممثلين المصريين الذين يبحثون عن الشهرة داخلها، اختار جميل العالمية منذ البداية، واقتحم الفن الفرنسي بقوة؛ ما دفعه للتدرج بشكل ثابت.

وشارك في باريس في بضع مسرحيات عالمية، منها 5 أعمال لشكسبير، وعن تلك اللحظات قال: “عندما شاهدت اسمي للمرة الأولى على “أفيش” في فرنسا كان يومًا كبيرًا بالنسبة لي”.

وأصبح الفرنسيون يطلبونه في أدوار البطولة فعمل 7 أفلام في السنوات العشر الأخيرة، كما عمل أيضًا في بطولة 3 أفلام تونسية إنتاج فرنسي مصري مشترك.

كرم مطاوع والبوابة المصرية

تصر مصادر أخرى أن البداية الفنية لجميل راتب كانت في مصر وليس في فرنسا كما هو معروف، حيث يذكر تاريخ السينما المصرية البداية الحقيقية لـ”راتب” من خلال مشاركته عام 1946 في الفيلم المصري “أنا الشرق”، الذي شاركته البطولة فيه الممثلة الفرنسية كلود جودار.

ومع بداية الخمسينيات كان سليمان بك نجيب مديرًا لدار الأوبرا المصرية، ويطلب حضور الفرق المسرحية من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا لتقديم عروض في مصر، حينها سأل عن جميل واستفسر عن مستواه الفني، وبعد أن سمع رد فعل إيجابية عنه تمنى أن يأتي ضمن المجموعة القادمة.

وبالفعل أتى جميل راتب إلى مصر عام 1952 مع إحدى الفرق الفرنسية لتقديم عرض مسرحي، وكان يؤدي دورًا أساسيًّا كذلك.

وفي عام 1974 عاد جميل مجددًا لمصر لإنهاء بعض الأمور العائلية، وحصل على عطلة 6 أشهر من عمله في باريس، ومع وصوله كان الراحل كرم مطاوع سببًا في دخوله العالم الفني المصري: “كرم مطاوع عرض عليّ دور رئيس في مسرحية دنيا البيانولا”. كما دفعته عودته للمشاركة في الأجزاء الشهيرة لمسلسل “يوميات ونيس” إلى جانب الفنان محمد صبحي، والذي دفع بشهرته العربية إلى ذروتها.

وجذبت سمعة الفنان جميل راتب إليه مشاركات في عديد من الأفلام العربية والعالمية، حيث شارك في أفلام لصالح تونس والمغرب والجزائر، كما شارك في التمثيل في الولايات المتحدة. وتم تكريمه من قبل “معهد العالم العربي” في باريس و”مهرجان القاهرة السينمائي” عن رحلته الفنية الثرية.

حب بلا ثمر

تزوج جميل راتب من مونيكا مونتيفير، والتي كانت تعمل بالتمثيل الذي اعتزلته بعد ذلك وتفرغت للعمل كمديرة إنتاج ثم منتجة منفذة ثم مديرة مسرح الشانزليزيه.

دام زواج جميل ومونيكا 15 عامًا، قبل أن ينفصلا، حيث ظلت مونيكا تقيم في بلادها، واستمر “راتب” بزيارتها في منزلها الريفي في باريس، بعد أن احتفظا بصداقتهما رغم الانفصال.

وكشف جميل سابقًا في أحد تصريحاته أنه لم يتزوج بامرأة أخرى بسبب حبه الذي ظل يحتفظ به لزوجته مونيكا، قائلاً: “قلبي لم يعشق سوى السيدة مونيكا مونتيفير، التى عشت معها 15 عاماً، ثم انفصلنا فى سلام تام، ولكننا ما زلنا أصدقاء، وبعدها لم أفكر فى الزواج وعشت من أجل الفن”.

ورغم علاقة الزواج الطويلة والحب، لم ينجب جميل راتب، وبرر ذلك بسبب هواجسه في ظل تنقله المستمر وعمله المتواصل، مبينًا: “لم أستطع الإنجاب خوفًا من عدم استطاعتي تأدية الواجب تجاه ابني أو ابنتي، ورغم ذلك فأنا لم أفكر فى تبني طفل، وهاني التهامي مدير أعمالي من أقرب الأشخاص لي، وأعتبر أبناءه أحفادي”.

ومن المنتظر أن يشيّع الفنان المصري جميل راتب بعد ظهر اليوم من الجامع الأزهر،  مخلفًا وراءّه إرثًا فنيًّا وعمرًا مديدًا وحكمته الشهيرة “كم تمنيّتُ مرور الأيام، ونسيت أنها عمري”.