النظام الإيراني..

في ظل نظام ديمقراطي.. هل كانت إيران ستعتدي وتحتل؟

الشعب الإيراني اندهش من حدة القمع والإعدامات التي بدأ الخميني عهده بها

منى فياض

أطالع الكثير من المقالات المتعلقة بإيران، تلفتني بينها تلك التي تستهدف من يسمونهم "المؤلفة قلوبهم"، أو حسب مبدأ الـ Philanthrope أو فاعلي الخير، أولئك الذين يجهدون لإظهار الوجه المتحضر للشعب الإيراني من أجل التخفيف من حدة الصراع العربي ـ الإيراني الحالي، إلى درجة نفي الصفة الفارسية عنهم.

لا شك في أن الشعب الإيراني لا يتحمل تبعات السياسة القومية التوسعية والعدوانية لنظام الملالي، خصوصا إذا عطفناها على التحركات الاعتراضية التي تنفجر من وقت لآخر في وجه النظام، وبعد أن بدأت تتعالى الأصوات المنادية لأول مرة "بالموت للديكتاتور". لكن لا تجدر المبالغة أيضا في لفلفة التناقضات والتعامي عن الموقف الإيراني العدائي تجاه العالم العربي. حرب عراق صدام ساهمت في تمتين نفوذ نظام الملالي؛ فالشعب الإيراني اندهش من حدة القمع والإعدامات التي بدأ الخميني عهده بها، لكن الحرب جعلته يلتف حول الخميني متناسيا عنفه وظلمه.

أذكر عند انفجار الحركة الخضراء أنني تحمست لثورة الإيرانيين. وتخفيفا لحماسي كان بعض الممانعين "المتخفين" يذكروني، مع مسحة من كره للذات العربية، بألا انخدع وانتظر سلوكا أفضل من إيران تجاه العرب مهما كان شكل النظام الإيراني. الأمر الذي كان يثير استغرابي، لأن أي نظام ديمقراطي سيهتم بالإنماء الداخلي لتأمين رفاه شعبه وحقوقه ولن يعتدي على الآخرين وحقوقهم سواء كانوا أفرادا أو جماعات، ولأني أؤمن شخصيا بدور النظام السياسي في بناء الشخصية الوطنية وفي تعديل سلوك المواطنين.

فالمواطن في الغرب لا يولد مع جينات موروثة تجعله يحترم القوانين، بل إنه يخالفها عندما يتسنى له ذلك. وليس علينا سوى متابعة تصاعد اليمين العنصري مع موجة الهجرة المكثفة التي اجتاحت أوروبا بسبب الحرب التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه على الشعب السوري. إنكلترا استبقت المشكلة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، في الخطوة التي سميت بـ"البركسيت".

على كل حال، سأحكي تجربتي مع النظام الإيراني قبل تطور الصراع العربي ـ الإيراني، وعندما كانت إيران تجهد للانفتاح على الطبقة المثقفة اللبنانية بمختلف فئاتها. فنظام الملالي يستخدم البروباغندا والكلمة كسلاح أمضى من الرصاص. وأترك الحكم للقارئ.

دعيتُ في 1993 لزيارة طهران مع وفد كبير من أساتذة الجامعات والمثقفين. وهنا يجدر التنويه إلى أن الإيرانيين لا يوجهون لك الدعوة كبقية خلق الله، بل يحرصون أولا على "جس النبض" وهل لديك الاستعداد "لقبول" الدعوة قبل توجيهها. في خطوة تهدف للحفاظ على الكبرياء والكرامة كما يبدو.

دعينا لمدة أسبوعين في شباط/فبراير أثناء الاحتفالات بالثورة وبذكرى عودة الخميني من باريس. أذكر أننا توقفنا في دمشق وانضم إلينا البعض هناك، ومن بينهم المترجمة الشخصية للرئيس السوري، والتي أصبحت وزيرة فيما بعد وناطقة باسم النظام، عنيت بثينة شعبان.

سأشير إلى بعض المحطات ذات المغزى في هذه الزيارة. طبعا كان على السيدات وضع غطاء للرأس وملابس محتشمة، وبما أن الفصل كان شتاء كان يكفي التنورة الطويلة مع الحذاء طويل العنق. مع ذلك كنا مراقبات عن كثب طوال الوقت، حتى أنني ذات مرة عندما جلست على حافة مكتب في بهو الفندق بسبب طول انتظار تجمع الوفد الذي يتطلب أكثر من ساعة؛ اعترض أحد المرافقين على جلستي غير المحتشمة، برأيه طبعا.

كان علينا التحرك كمجموعة مع عدد كبير من المرافقين دون أي إمكانية لأي زيارة خاصة من أي نوع. الحراسة مشددة ولو أنها غير نافرة، لأنها تتخذ شكلا مخمليا من العناية بالضيف وإكرامه. حتى أنني اذكر صبية كانت ترافقني بمفردي تقريبا، وهي في حوالي الثلاثين من العمر وكانت رافضة للزواج؛ ككثيرات مثلها، في سلوك بدا أنه يجمع بين الرهبنة والنسوية.

لكني لم أتحقق من هذه الرقابة الأمنية المشددة إلا عندما طلبت مترجمة الرئيس السوري حينها، أن تزور شقيقتها المتزوجة من عراقي. فمع صفتها الرسمية تلك كان عليها الانتظار لأيام وأيام حتى قبل رحيلنا بوقت قليل، وذهبت بحراسة ومكثت مع أسرة شقيقتها ساعة أو ساعتين. وعلمت منها أن العراقيين في طهران موجودون بما يشبه "الغيتو" ولا يسمح لهم بحرية الحركة.

أذكر أنني كتبت لاحقا، في العام 2000، عن وضع العراقيين المحاصرين إثر تحقيقات صحافية في جريدة الحياة بعد أن صدر حينها قانون يمنع زواج العراقي من إيرانية. تساءلت إن كان هذا سلوكا مقبولا من دولة تقول إنها إسلامية! حينها رد عليّ عطاء الله مهاجراني في جريدة النهار يغالطني ويقول إنني لم أوثق مزاعمي. فأحلته على المرجع.

صادفت مهاجراني نفسه في ندوة في أصيلة منذ عامين وناقشني في موقفي ممن يأتمر بأوامر دولة أجنبية كحزب الله، وبأنهم ليسوا عملاء. ذكرته حينها بأن إيران تعتبر مجاهدي خلق، وهي حركة معارضة سياسية، أعداء يستحقون القتل. فأجاب أن هذا يحتاج لنقاش طويل!

أما أثناء زيارتي إيران، فالأمر الملفت الآخر كان الأحاديث والتعليقات التي حرص عليها مستشار محمد خاتمي الثقافي بعد أن أصبح رئيسا، محمد علي أبطحي، الذي قبض عليه ونكل به أثناء الثورة الخضراء في 2009. كان أبطحي دائم الاهتمام بسؤالي ونقاشي عما أراه وألاحظه. مرة بعد عودتنا من زيارة مركز اسمه حجاب، وهو مبنى على شكل نصف كرة مقلوبة ويحتوي على قاعات تعج بتماثيل شمعية لكل أنواع الحجاب المتخلفة، بألوانها وأشكالها وقد تكون مزركشة، بحسب مصدرها من أي منطقة. بادرني بالسؤال: ما رأيك؟ هل اقتنعت أننا لا نفرض الحجاب بل هو جزء من عاداتنا وتراثنا وتقاليدنا؟

سألته عندها: ما دام هذا جزء من تقاليدكم وتراثكم وأنتم تريدون المحافظة أو العودة إليه، فلم إذن لا تعودون إلى التقاليد والتراث فيما يتعلق بلباس الرجال؟ أليس البنطلون والجاكيت والقميص، ولو بدون قبة، ملابس غربية مستوردة؟!

قال لي: وماذا تريدين أن نلبس؟ نظرت إليه بحيرة وقلت له مثلك مثلا، جبة وعباءة كما تفعل! نظر إليّ بحدة، وأمسك بطرف عباءته السوداء الشفافة فوق قفطانه البني، وضغطها وشدها وقال: هذا؟ هذا لباس عربي!

فاجأني رد فعله، ونظرت إليه باستغراب شديد. لم يراعني.. كأني مجرد شيعية بنظره، ولست عربية! وهل هذه ردة فعل شخص يدعونا نحن "العرب" لزيارة دولة إسلامية تريد أن تصدر ثورتها إلى البلدان التي ترفض تراثها وتقاليدها؟

عندما عدت إلى لبنان كتبت مقالا عن زيارتي، ولم أكن حينها أرغب في انتقاد النظام الإيراني بحدة، بل الإشارة فقط إلى بعض المفارقات التي عشتها في زيارتي إلى دولة تزعم أنها "أممية ـ إسلامية"؛ وعنونت مقالتي: "زيارة (الغريب) في إيران". والغريب بالمعنى المرهف للكلمة (subtle)، لأن مرقد الإمام الرضا، العربي الذي عاش ودفن في مدينة مشهد، ظلت تسميته "الغريب". فكما زاره شيعة لبنان، ومنهم جدي وجدتي، كانوا يذهبون لزيارة "الغريب". فما كان من مسؤول الصفحة إلا أن غيّر العنوان الشفاف بآخر فج: زيارة الغريبة إلى إيران!

السؤال الذي أريد التوصل إليه؛ هل إذا ما تغير النظام وأصبح ديمقراطيا ليبراليا سوف يتغير سلوك الإيرانيين تجاهنا؟ شخصيا أرجح ذلك، فليس المطلوب تبادل الأشواق. الألمان السويسريون غير مغرمين بالفرنسيين السويسريين والعكس صحيح. إنهم يتعايشون في ظل قوانين وأنظمة ترعى الحقوق للجميع. والحساسيات بين الفرنسيين والألمان والبلجيكيين مصدر تندر.

فقد يتخذ نظام ديمقراطي مواقف مشابهة للنظام في عهد الشاه الذي لم يكن وديا، لكنه كان أكثر اتزانا بما لا يقاس. فالأنظمة السياسية هي التي تساهم في تطوير وتغيير نظرة وسلوك مواطنيها لجهة التسامح وقبول الآخر المختلف كمساو بغض النظر عن قوميته أو لونه أو عرقه. وأي نظام ديمقراطي سيهتم برعاية مواطنيه وحقوقهم وليس الاعتداء على الأمم الأخرى.

وما علينا معاينة نتيجة الانقلاب الحاصل على النظام اللبناني المتعدد الديمقراطي والذي شرذم الشعب وأعاده إلى غرائزه وعصبياته على مستوى ووتيرة لم تعرفها الأجيال السابقة التي ترعرعت في ظل الجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال، خصوصا بعد التجربة الشهابية التي عززت التربية وعممت المدارس الحكومية المختلطة في جميع المناطق مع بدايات تنمية عادلة. فنشأ جيل مثل جيلي، منفتح وغير متعصب، ولو أنه خاض معاركه باسم الحركة الوطنية طلبا لإصلاحات كان يمكن تحقيقها عبر نضال سلمي، لو اختلفت الشروط والظروف الإقليمية التي تجعل لبنان عرضة للضغط والتسليم بما ليس لمصلحته من ضعف واستسلام حكامه.