الأزمة الإيرانية..

تقرير: خطة إيران للتحايل على العقوبات النفطية

نشاط إيراني مكثف في السوق السوداء

لندن

حذّرت الإدارة الأميركية من شراء النفط الإيراني بعد الرابع من نوفمبر القادم، لأن ذلك سيعد خرقا للعقوبات المفروضة على إيران، التي تأتي في المرتبة الثالثة كأكبر مصدر للنفط في أوبك بعد السعودية والعراق. وتوعّدت واشنطن بفرض عقوبات مالية صارمة على أي طرف متورط في تجارة النفط الخام مع إيران، في إشارة إلى التعاملات السرية بين إيران وبعض الحكومات.

لا تستطيع إيران أن تتخلى عن تجارة التصدير المربحة التي تولد عائدات حكومية هي في أمس الحاجة إليها مع عودة العقوبات وفشل الاقتصاد في الاستفادة من “الاستراحة” القصيرة منها. وتملك إيران تجارب كثيرة في سياق انتهاك العقوبات المفروضة عليها، ويتوقع الخبراء اليوم أن تسير على نفس المنهج.

ويشير الخبراء إلى أن الخصومات والتهريب من خلال استعمال الناقلات الشبح والمقايضة بالعملة المحلية كالروبية الهندية والليرة التركية والدينار العراقي ستكون من أبرز الأدوات الإيرانية لتجاوز العقوبات التجارية بعد استئناف العقوبات الأميركية، التي دخلت الحزمة الأولى منها حيز التنفيذ في شهر أغسطس الماضي.

ويتوقع الخبراء أن تقوم إيران بتصدير حوالي 800 ألف برميل من النفط يوميا حتى عام 2019، بما في ذلك نحو 20 ألف برميل سيتم إرسالها في صورة شاحنات إلى العراق وأفغانستان وباكستان.

الناقلات الشبح

بدأت شركات تتمركز بالأساس في الولايات المتحدة وأوروبا تقليص نشاطها الإيراني للامتثال للعقوبات،. وألقى ذلك بظلاله على الاقتصاد في إيران، التي أكّدت أنها ستعمل على إيجاد “طرق أخرى” كانت تُستخدم في الماضي لتصدير نفطها. صرّح بذلك وزير النفط الإيراني، بيجن نامدار زنكنه، قائلا إن “إيران ستجد طرقا أخرى للحفاظ على مبيعات نفطها في السوق”.

وهنا، يشير الخبراء إلى أن إيران يمكن أن تستفيد من ثغرة في نظام العقوبات، كما حدث في فترة العقوبات الأخيرة المفروضة على صناعة النفط، حيث قامت منظمة الأوبك بتعطيل أنظمة التتبع على أسطولها من الناقلات، مما أخفى الوجهات وحجم صادرات النفط. وبذلك لم يُعرف مصير ملايين البراميل من النفط الإيراني دون أجهزة التعقب.

ويبدو أن إيران، التي قررت تكثيف مبيعات النفط، بطريق شرعية وغير شرعية، قبل الدخول إلى موقع العقوبات، تعيد نفس التكتيك. وكشف تقرير لمجلة فاينانشيل تايمز أنه تم رصد تقرير تحركات مثيرة للشبهات لناقلة نفط تدعى “هابينيس” محمّلة، بمليوني برميل نفط أو بما وصفته فاينانشيل تايمز، بـ”مليوني برميل من المتاعب لإيران”.

تمت تعبئة الناقلة في محطة تديرها شركة النفط الوطنية الإيرانية في جزيرة “خارج” في بداية شهر سبتمبر، وكانت وجهتها وفق بيانات السفن، نحو آسيا، لكن ما لفت الانتباه أنه بمجرد تجاوز “هابينيس” مضيق هرمز، تم إيقاف برنامج التتبع الذي يسمح للتجار والمتداولين بمراقبه تحركاتها.

وتظهر هنا المؤشرات على عودة إيران إلى قواعد البيع سرا. فالناقلة “هابينيس” هي واحدة من سبع ناقلات على الأقل تحمل النفط الإيراني دون أن تبث مواقعها.

إيران تحاول الالتفاف على العقوبات الأميركية بتغيير طريقة احتساب السعر من تسليم ظهر السفينة إلى التسليم بعد الشحن. وبذلك تتكفل إيران بالتكاليف والمخاطر المتعلقة بتسليم الخام، بجانب التأمين

ونقلت فاينانشيل تايمز عن مات سميث، مدير أبحاث السلع في مؤسسة كليبر داتا، التي تتعقب السفن المليئة بالنفط الإيراني، قوله إن “الناقلة قامت بإيقاف تشغيل جهاز إرسالها في 16 سبتمبر، ولم ترسل إشارة منذ ذلك الحين”.

وأضاف “رأينا هذا يحدث في السنوات الماضية عندما كان اقتصاد إيران يتعرض لضغوط العقوبات. ونحن الآن نرى الشيء نفسه مرة أخرى، وهو ممارستها لنشاط البيع سرا”.

وأدى الخوف من العقوبات الأميركية وانخفاض عائدات النفط، المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية في البلاد، إلى انخفاض العملة الوطنية، الريال، بنحو 70 بالمئة هذا العام. ووفقا لمؤسسة أف.جي.إي، وهي شركة استشارية، يتم تخزين ما بين 10 و15 مليون برميل من النفط الإيراني على سفن بحرية، دون استطاعة الحصول على أي مشتر. ونقلت صحيفة بيزنس انسايدر عن إيمان ناصري، من مؤسسة أف.جي.إي أن “إيران تواجه صعوبة شديدة في بيع نفطها الخام”.

وتعتمد حكومة حسن روحاني بشكل رئيسي على عائدات النفط لدفع مرتبات موظفي الخدمة المدنية وتغطية المبالغ النقدية لتعويض الإيرانيين عن ارتفاع أسعار الطاقة. ومع تزايد الاحتجاجات المعادية للنظام، قد ينفد الصبر العام إذا بدأت الأموال أيضا في النفاد.

وتتسابق السلطات من أجل التكيف. وأذن المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي في إيران، الذي تشكل هذا العام للتحايل على العقوبات الأميركية، لوزارة النفط هذا الأسبوع ببيع النفط الخام إلى القطاع الخاص بينما تبحث عن منافذ بديلة. وهذه هي المرة الأولى التي يُسمح فيها رسميا للقطاع الخاص في إيران بالمشاركة في مبيعات النفط الخام.

وفي ظل العقوبات الأميركية والأوروبية السابقة في عام 2012، قام بعض رجال الأعمال والمنظمات الداعمة لإيران ببيع النفط الخام لمساعدة الحكومة على تخطي العقوبات، لكن هذا التكتيك لم يمر مرور الكرام. فقد تم توجيه اتهام لباباك زنجاني، وهو رجل أعمال، ببيع 2.8 مليار دولار من النفط الخام، لكنه رفض السداد إلى الحكومة، وحكم عليه بالإعدام وفي انتظار جلسة استئنافية.

وتعد فرنسا وكوريا الجنوبية من بين الدول التي أوقفت مشترياتها من إيران بالكامل. وكذلك قللت كل من الصين والهند من استهلاكهما من البراميل الإيرانية، لكن يرصد الخبراء تحركات هندية وصينية تشي بأن هناك تعاملات سرية مع إيران في قطاع النفط.

وتسعى الصين، أكبر مستورد للنفط الإيراني، للحفاظ على تدفق الإمدادات من إيران. وكشف تقرير رويترز كيف تحاول إيران الالتفاف على العقوبات الأميركية بتغيير طريقة احتساب السعر من تسليم بظهر السفينة (فوب) إلى التسليم بعد الشحن. وبذلك تتكفل إيران بالتكاليف والمخاطر المتعلقة بتسليم الخام، بجانب التأمين.

واستخدمت إيران نظاما مماثلا في الفترة بين عامي 2012 و2016 للالتفاف على العقوبات التي قادها الغرب والتي نجحت في خفض الصادرات بسبب الافتقار إلى التأمين على الشحنات. ولم تتضح على الفور الكيفية التي ستوفر بها إيران التأمين لمشتريات النفط الصينية، التي تبلغ قيمتها نحو 1.5 مليار دولار شهريا. ​ونقلت الوكالة عن أحد المصادر، وهو مسؤول تنفيذي كبير بقطاع النفط في بكين، أن “التغيير بدأ منذ فترة قريبة جدا، وكان مطلبا متزامنا من الجانبين تقريبا”.

وقال روبن ميلز الرئيس التنفيذي لمؤسسة الاستشارات قمر إنرجي في دبي، إن ما يقرب من 200 ألف برميل نفط إيراني من الممكن أن لا يتم الكشف عنهم بعد فرض العقوبات. وسيكون حجم صادرات على هذه المستويات مهم من أجل تخفيف الأزمة الاقتصادية لإيران، ولكن لن يكون لها تأثير على السوق العالمية”.

تركيا ضالعة في عقد الصفقات السرية مع إيران

أنقرة - ردت تركيا على التحذيرات الأميركية بشأن خرق العقوبات الأميركية على إيران بأنها ترفض الامتثال للقرار الأميركي ولا تنوي قطع علاقاتها التجارية مع طهران، في خطوة تتجاوز حالة التوتر بين واشنطن وأنقرة، ذات التجربة في مجال الالتفاف على العقوبات الأميركية والدولية المفروضة على إيران. كان لأنقرة دور كبير، عبر قنوات غير رسمية، في مساعدة إيران للقفز على جدار الحصار الاقتصادي، خلال فترة العقوبات الدولية المفروضة عليها والتي ألغيت بتوقيع الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة خمسة زائد واحد عام 2015. اليوم، وفيما يقترب موعد دخول الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية حيز التنفيذ، يتوقع المراقبون أن تكرر تركيا، التي فرضت عليها بدورها عقوبات أميركية وتمر بأزمة اقتصادية، أن تكرر ذات النهج مع إيران.

ومؤخرا، دعمت أنقرة استخدام الريال والليرة في التبادل التجاري بينها وبين إيران بدلا من الدولار. وفيما يؤكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه سيقود مَسيرَة تَّمرُّد على “العقوبات الاقتصاديّة الخَانِقة” التي ستفرضها الولايات المتحدة ضد إيران، وأبرزها “منع استيراد النِّفط منه”، يتردد صدى محاكمة تاجر الذهب التركي ذي الأصول الإيرانية رضا ضراب، الشاهد الرئيسي في محاكمة بنيويورك، حول تورط رجب طيب أردوغان في قضية الالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. واحتوت شهادة ضراب على الكثير من التفاصيل المثيرة حول تلك القضية التي تعود أحداثها لعامي 2012 و2013.

تاجر الذهب التركي الإيراني شاهد رئيسي على تاريخ الصفقات السرية بين أنقرة وطهران في مجال خرق العقوبات المفروضة على إيران.
تاجر الذهب التركي الإيراني شاهد رئيسي على تاريخ الصفقات السرية بين أنقرة وطهران في مجال خرق العقوبات المفروضة على إيران.

وكشف رجل الأعمال الشاب البالغ من العمر 34 عاما، للمحكمة الفيدرالية في منهاتن، أنه دفع بين مارس 2012 ومارس 2013 رشاوى تبلغ أكثر من خمسين مليون يورو لوزير الاقتصاد السابق ظافر شاجليان. وهذا ما سمح له بأن يفرض نفسه كوسيط أساسي لتجارة إقليمية معقدة لكن مربحة كانت تسمح لإيران عبر المصرف الحكومي التركي “خلق بنك” بضخ مليارات اليورو من عائدات محروقات في النظام المصرفي الدولي على الرغم من العقوبات الأميركية التي تحظر التعامل التجاري مع طهران.

واستحضر المراقبون هذه التفاصيل، عند قراءة خبر إعلان رجل الأعمال التركي أوميد كيلر رئيس الغرفة التجارية الإيرانية التركية في أن البلدين يخططان لإنشاء بنك مشترك في المستقبل القريب. وأضاف أن إنشاء بنك مشترك يتم من خلاله التبادل التجاري بين البلدين من دون الحاجة إلى الدولار، هو الخطوة الأخيرة على طريق تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين.

يشير المراقبون في هذا الصدد إلى الدور الذي تلعبه البنوك في عملية الالتفاف على العقوبات. ولا يستبعدون أن يكون قرار تعيين عبدالناصر هماتي، مكان ولي الله سيف، محافظا للبنك المركزي الإيراني، يندرج في هذا السياق. ويشتهر هماتي بتاريخه الطويل في غسل الأموال وانتهاك العقوبات الأميركية، مثلما كان يفعل سيف. وفي مايو الماضي، وقعت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على كل من سيف، رئيس البنك المركزي السابق، وموظفيه لقيامهم بغسل الأموال من خلال بنك عراقي إلى حزب الله، وفيلق القدس التابع لحرس الثورة. وبين عامي 2006 و2016، شغل هماتي منصب الرئيس التنفيذي لبنك سينا وبنك ميلي، اللذين خضعا للعقوبات الأميركية والأوروبية بسبب دورهما في تسهيل انتشار الأسلحة،.

ووفقا لوزارة الخزانة الأميركية، فقد تمت معاقبة بنك ميلي على وجه الخصوص في عام 2007 بسبب تسهيله لعمليات شراء مواد عديدة لبرامج إيران النووية والصاروخية. ويشغل هماتي حاليا منصب رئيس مجلس إدارة بنك “فيوتشر”، الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات في عام 2008 بسبب خضوعه لأوامر بنك “ميلي“. في عام 2011، وقع الاتحاد الأوروبي عقوبات على هماتي بسبب دوره كرئيس لبنك “سينا”، الذي كان يعمل نيابة عن بنك “ميلي” للتهرب من العقوبات الأميركية وتسهيل انتشار الأسلحة في إيران.

إلى جانب الصين، من المرجح أن تستمر تركيا والهند في شراء النفط الإيراني بعد استئناف العقوبات.

ويقول الخبراء إن العديد من المشترين لن يكونوا قادرين على تحمل التخفيضات الحادة، وبعضهم قد يلجأ إلى إعادة المعاملة بالمقايضة، وهي إحدى الطرق التي كانت فعالة في وقت سابق مع فرض العقوبات على إيران.

ونقلت صحيفة إيكونومك تايمز الهندية عن إحسان خومان، رئيس قسم الأبحاث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمؤسسة “ميتسوبيشي يو.أف.جيه فاينانشيال غروب” قوله إن “أسلوب المقايضة وآليات التمويل الخاصة هي من بين الطرق التي قد تسمح بوصول المدفوعات إلى إيران”.

وبالعودة إلى الماضي، تكشف السجلات أنه بين عامي 2012 و2016، تبنت الهند نظاما يشبه المقايضة لشراء النفط من إيران واستخدمت طهران الروبية لاستيراد سلع من الهند.

ومع صدور العقوبات الأميركية الأخيرة ذكرت تقارير أن الهند، أكبر مشتر للنفط الإيراني بعد الصين، ستقوم بتسوية مدفوعات الخام الإيراني باستخدام الروبية عبر بنوك محلية بدءا من نوفمبر في الوقت الذي ستصعب فيه تسوية تجارة النفط عبر البنوك الأوروبية بسبب العقوبات على طهران.

الدينار العراقي

 دفعت إيران العراق إلى انتهاج سياسة مشابهة لاتفاقها مع الهند، حيث سيكون العراق مضطرا إلى التخلي عن الدولار في تجارته مع إيران للالتفاف على العقوبات. وأكّد على ذلك المتحدث الرسمي لرئيس الحكومة العراقية، سعد الحديثي، مشيرا في تصريحات صحافية إلى أن بغداد ستعمل على تطوير “آلية جديدة” لدعم العلاقات التجارية بين الجانبين لتخفيف تأثير العقوبات. وأعلنت وكالة “مهر” الإيرانية، السبت 1 سبتمبر أنه تم إلغاء عملة الدولار في المبادلات التجارية بين العراق وإيران.

ويبذل البيت الأبيض قصارى جهده لتحويل الأمور لصالحه. حيث صرح مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية إن الولايات المتحدة تساعد الحلفاء على إيجاد بدائل للبراميل الإيرانية، فيما شدد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، على أن واشنطن ستعمل على ضمان التزام العالم بتنفيذ العقوبات.

وتتوقع شركات مصافي التكرير وغيرها من الشركات التي تعتمد على المصارف العالمية والتأمين وصناعة الشحن التي تعمل بالدولار الأميركي أن تكون إدارة ترامب أكثر عدوانية من سابقاتها في تعقب منتهكي العقوبات. ونقلت فاينانشيل تايمز عن أمريتا سين، كبيرة محللي النفط في مؤسسة إنيرجي أسبكتس الاستشارية، قولها إن الاستخدام الواسع النطاق لتكنولوجيا تتبع البضائع سيحد من المبيعات السرية.

وأضافت سين أن “هناك العديد من الطرق الأخرى التي يمكن من خلالها تحديد حالات البيع الشاذة والتحقيق في التدفقات التجارية التي لا تتطابق والمعايير. فبيع البضائع سرا من حين لآخر قد لا يلاحظه أحد، ولكن التهريب على نطاق واسع سيكون من السهل للغاية اكتشافه”، لذلك ترى فاينانشيل تايمز أن ناقلات النفط الإيرانية السرية لا تعتبر إلا تهديدا لإيران وليست علاجا لأزمتها.