الاغتيالات في عدن..

تقرير: من يقف وراء عمليات الاغتيالات في الجنوب؟

عودة مسلسل الاغتيالات في عدن

وهيب الحاجب
مجددا يعود شبح الاغتيالات إلى شوارع العاصمة عدن، بعد فترة ليست بالطويلة شهدت فيها المدينة استقرارا نسبيا وغيابا لهذا النوع من الجرائم.. إذ طالت آخر عملية اغتيال مدير مدارس البنيان رمزي الصغير يوم 23 سبتمبر الفائت.
مسلحون مجهولون - كالعادة - باغتوا صباح أمس مدير مكافحة المخدرات بإدارة أمن عدن وأطلقوا على سيارته النار ليردوه قتيلا إلى جانب اثنين من الجنود المرافقين له، في عملية اغتيال ليست الأولى من نوعها وترتيبها وتفاصليها في هروب الجناة وتقييدها ضد مجهول.
عشرات العمليات من هذا النوع شهدتها عدن خلال الفترة الماضية، بعضها أعلنت تنظيمات متطرفة كـ «داعش» مسؤوليتها عنها وأخرى لا يزال يكتنفها الغموض حتى اللحظة، ما يشير إلى حرب خفية تدار داخل عدن بطابع استخباراتي اُستغل من قبل أطراف وجهات سياسية ومتطرفة لتنفيذ عمليات تصفية لخصوم سياسيين وأعمال فوضى تستهدف إقلاق السكينة العامة ومحاولات لتقويض الجهود الرامية إلى تطبيع الوضع الأمني وإعادة الاستقرار للمدينة، لا سيما بعد هزيمة الحوثيين وقوات صالح في العام 2015، وما تلا ذلك من تحجيم وتقليص لنفوذ حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي كان يستأثر بكثير من المرافق الحكومية في عدن وعدد من محافظات الجنوب.
وضع ما بعد مغادرة قوات الحوثي عدن في العام 2015 أبقى معه فلولا وخلايا نائمة استغلتها قوى سياسية تقليدية ووظفتها لحرب خفية ضد إعادة بناء المؤسسات الجنوبية والعمل على التصدي لأية جهود من هذا النوع قد تحدث استقرارا أمنيّا من شأنه أن يؤسس لإعادة بناء هياكل الدولة الجنوبية من جديد.. فحُركت هذه الخلايا وتسببت بموجة اغتيالات وتصفيات دامية في نهاية العام 2016، واستمرت بشكل متقطع خلال العام 2017، غير أن قوات الحزام الأمني ومكافحة الإرهاب التي تشكلت عقب تحرير المدينة حدّت نسبيا من هذه العمليات وركزت جل جهودها على تحركات تنظيمي القاعدة وداعش.. لكن الاغتيالات استمرت بشكل متقطع حتى اليوم وبأساليب لم تحمل معها- في كثير من الأحوال- بصمات التنظيمين المتطرفين، ما يرجح فرضيات الحرب الخفية التي تُدار داخل عدن بأشكال متعددة ولأهداف متداخلة تلعبها جهات متناقضة سياسيّا وإيدلوجيّا من جهة وتوظفها جهات أخرى لتصفية الخصوم من جهة ثانية، وما يُضاف إليهما من عمل أمني واستخباراتي رسمي.
الاغتيالات في عدن وعدد من محافظات الجنوب المحررة تستهدف بشكل أساسي ثلاثة أنواع من الشخصيات هي رجال المخابرات والبحث الجنائي، رجال الدين وأئمة مساجد بعضهم انسلخ عن حزب الإصلاح والجمعيات الخيرية والتعليمية التابع له، وبعضهم ما يزال يمارس مهامه الحزبية والسياسية في إطار الحزب وعلى علاقة بجمعيات خيرية متهمة بارتباطها بمنظمات إرهابية أو تدعم التطرف والمتطرفين من خلال التأهيل الفكري أو الدعم المادي والضخ المالي، أما النوع الثالث فهم القيادات العسكرية الجنوبية المنضوية في إطار المقاومة الجنوبية والحزام الأمني وبقية التشكيلات العسكرية الجنوبية التي تكونت بعد تحرير الجنوب من قوات الحوثي والرئيس السابق علي عبدالله صالح.
وبالنظر إلى هذه الفئات الثلاث التي تركز عليها الحرب الخفية، فيمكن التوصل إلى صورة لطبيعة تلك الحرب وكيف تدار وما هي حدودها وأدوات تنفيذها وتكتيكاتها، فحزب التجمع اليمني للإصلاح هو المتهم الأول في هذه الحرب وهو صاحب السبق في إشعالها عقب شعور الإخوان بفقدان نفوذهم في الجنوب بعد مارس 2015م، إذ عمد الحزب إلى تحريك أدواته داخل عدن لتنفيذ عمليات اغتيال قيادات أمنية وعسكرية رأى فيها الإصلاح وبعض الخلايا النائمة أنها ستقوض إمكانية استقرار المدينة والعمل على جعلها مضطربة لتسهيل إعادة السيطرة عليها ورفع يد المقاومة الجنوبية عنها.. واستفاد الإصلاح من علاقاته القديمة مع تنظيم القاعدة عبر قيادات إخوانية ورجال دين كانوا يعملون بمثابة ضباط ربط بين القاعدة وداعش من جهة وبين القيادة الإخوانية التي تدير العمليات وتخطط لها وتوجهها.. حينها كان العمل الأمني بعدن في بداياته الأولى والقوات جميعها حديثة النشء وتفتقر لأسبط مقومات العمل الأمني في شقه الاستخباراتي الذي كان الإصلاحيون متفوقين فيه إلى حد ما، فكانت النتيجة أن حصدت العمليات عددا كبيرا من القيادات العسكرية والأمنية، لا سيما بعد دخول تنظيمي القاعدة وداعش على الخط مستغلين حالة الانفلات الأمني في المدينة ونفذا عمليات من نوع كبير استهدفت مقارا أمنية وعسكرية، وهنا تداخلت المهام بين الإصلاح من جانب وبين التنظيمين المتطرفين من جانب ثانٍ، واستمر الطرفان في تنفيذ عملياتهما مع سعي الإخوان إلى التخفي وراء القاعدة وداعش بعد كل عملية.
الإمارات العربية المتحدة عملت على بناء وتأهيل قوات الحزام الأمني وجهاز مكافحة الإرهاب وعدد من الجهات الأمنية لمواجهة الانفلات، فآتت هذه الجهود أكلها وحجمت إلى حد كبير تحركات القاعدة وداعش ونفذت هذه القوات مداهمات اعتقلت خلاها العشرات من المطلوبين على ذمة قضايا إرهابية واغتيالات، لكن الجهاز القضائي ظل معطلا ولم يُقدم أي من المقبوض عليهم للمحاكمة، فتم الإفراج بأوامر من النيابة عن معتقلين على ذمة قضايا إرهاب خلال ثلاث دفعات بلغ عدد المفرج عنهم أكثر من سبعين معتقلا لعدم كفاية الإدلة وفقا لتوجيهات النيابة، والبعض أفرج عنهم في ظروف غامضة وبتوجيهات من علي محسن الأحمر وفقا لتصريحات رئيس جهاز مكافحة الإرهاب العقيد يسران المقطري الذي كشف في وقت سابق أن معتقلين مطلوبين لدى الجهاز تم تحويلهم بتوجهات من الأحمر إلى البحث الجنائي بعدن فأُفرج عنهم، وعند مطالبة الجهاز بنتائج التحقيقات وقعت العملية ضد مبنى البحث الجنائي وأحرقت كل ما فيه من وثائق؛ وهي دلائل تشير إلى أن قيادات إخوانية في المؤسسات الرسمية للدولة تشارك وتدير الحرب الخفية في عدن أو جزء منها على الأقل.
الحملات الأمنية أربكت المخططات ذات التخطيط الكبير والتي تلتقي عندها أهداف الإخوان مع أهداف القاعدة وداعش ولو بشكل تنسيق مصالح مشتركة وتعاون، ما دفع بالتالي أطراف الحرب السرية إلى الاعتماد على العمليات الصغيرة وهي الاغتيالات.. ومن المعروف في تاريخ القاعدة وداعش أنهما يستهدفان رجال المخابرات والبحث والأمن، وهو هدف رأى فيه الإصلاح اليمني تحقيقا لمصلحته في الجنوب هو أيضا، غير أن اغتيال رجال الدين وأئمة المساجد وبعض قيادات الإصلاح شكّل وجها آخر لطبيعة حرب الجواسيس الخفية في عدن، بمعنى أن هناك قوى أخرى ربما تكون دخلت على خط المواجهة بشكل أو بآخر.
بعض رجال الدين وأئمة المساجد الذين اُغتيلوا كانوا قد انسلخوا عن حزب الإصلاح واعتزلوا العمل السياسي بعد تصاعد النقمة الشعبية ضد الحزب في الجنوب وما انكشف عنه من مخططات تآمرية ضد قضية الجنوب، ما يعني أن هؤلاء تم تصفيتهم والتخلص منهم بعد إتمام مهمتهم أو خشية من أن يكشفوا أوراقا إخوانية مازالوا يحتفظون بها، لكن رجال دين ممن اُغتيلوا كانوا مازلوا ملتزمين بانتمائهم للإصلاح ومرتبطين بجمعيات خيرية وتعليمية متهمة بالتطرف؛ وهذا ينفي صفة التصفية داخل الحزب ليشير إلى عمل أمني ربما رسمي يقف خلف هذه الاغتيالات وهي قليلة.
إذن.. القاعدة وداعش يستهدفان رجال المخابرات أي كانت انتماءاتهم الحزبية والمناطقية، والإخوان هدفهم هو القيادات العسكرية الجنوبية مع تصفية رجال دين خرجوا عن إطارهم الحزبي أو تخاذلوا وامتنعوا عن تنفيذ أعمال تخريب وإرهاب عهدت إليهم في عدن، في حين يرجح أن يكون عمل أمني وجهات رسمية على علاقة بعمليات طالت قيادت إصلاحية متهمة بالتخطيط والإشراف على الاغتيالات، وهي عمليات تشكل في مجملها حرب خفية بين أطراف متعددة باتت أكثر وضوحا في شوارع عدن المهددة بمزيد من التصعيد والانفلات.​